في الإرث الغنائي في زمان مضى غير هذا الزمان كنا نردد في صبانا مع صديق سرحان (ناس معزتنا مابنريد غيرهم رحلو خلونا)
جالت بخاطري تلك الأغنية وانا أقف في صفا طويلا مع مئات الرجال والنساء كل يمني نفسه ببضع رغيفات للفطور حتى أضحى صاحب المخبز وعمال الأفران ممن يحبهم الناس ويتقربون لهم زلفي ابتغاء المصلحة في الحصول على رغيفات للغداء أن كتب الله لنا عمرا حتى العصر
والموت يطوف من حول أهل السودان بالرصاص ويهددهم الجوع وعصابات النهب وعتاة المجرمين المطلقي السراح يحملون الناس على حمل العصي والسواطير والسكاكين كأنهم في عصر غير هذا العصر( رحلو خلونا) أو رحلو خلوهم أن جاز التعبير هم سفراء العرب والاعاجم افرنجا وأفارقه ومن القارة الصفراء ومبعوثي الأمم المتحدة ومبعوثي الحكومات الذين كانوا يجوسون البلاد ويطوفون على الأحياء والدساكر والقرى يمنون بعض الغافلين من أبناء شعبنا برغد العيش ورخاء الحال ويسر المآل أن هم اصغوا لوصفات جاء بهم فولكر ودستور أعده خبراء من كل أقطار الدنيا ووثيقة اتفاق خرج من رحم مجموعات الضغط الأمريكي وتحت التهديد والتخويف والاغراء وشراء الرجال بابخس الأثمان وقع بعضهم ورجولهم على اعناقهم حتى تبين عوراتهم أن كانت لهم عورت تستحق الستر والإخفاء
طافت بمخيلتي صورة السفير الأمريكي يطفون الأحياء الشعبية ويحتسي القهوة مع النساء المومسات ويصطنع الإعلام صورة للرجل زائفة كأنه رسول الرحمة المبعوث لرفاه أهل السودان التعيس وصورة لفوكلر المبعوث الأممي الذي أصبح بمثابة الحاكم العام الذي طرده إسماعيل الأزهري وصحبته من السياسين عام ١٩٥٦ ولكن حمدوك اعتزر البريطانيين لطردهم من السودان بما لايليق بمقام البريطانيين وكتب إليهم ولربائبهم الآخرين في مجلس الأمن الدولي مطالبا بانتداب حاكم جديد بموجب الفصل السابع لمساعدته في حكم السودان وحمايته من شرور العسكر وغضب الشعب فجاء بفوكلر العجوز الألماني ذو الأصول السويسرية للعب دور الحاكم العام في السودان
ولكن مع انطلاق اول رصاصة إيذانا بنشوب خراب سوبا الجديد كما وصفه حامد البشير في حديث خاص في ليلة البروق ورعود السلاح في قريتنا طيبه إثر الافرنج العرب والافارقة مغادرة السودان وإغلاق السفارات ليرحل حكامنا الحقيقين عنا نحن أهل السودان (ويخلونا) أو (يخلوهم) الأول الضمير عائدا لمجموع أهل السودان المغلوبين على أمرهم والحائرين في الطرقات
اما الضمير في الثانية يعود لنخبة من الساسة قصار النظر ممن جعلوا من سفارة الإمارات مزارا وكعبة يطوفون حولها ركعا وسجودا تحت أقدام سفيرا لا يستحي من نفسه عندما يحدثهم عن ضرورة انتهاج النظام الديمقراطي واحترام حقوق الإنسان في السودان والسفير الإماراتي شخصيته في السودان تمثل دور ذلك الذي يمشي بين السياسيين بالنميمة ليوقع الفتنه بينهم مثل بطل مسرحية شكسبير (عطيل) حتى نجحت خطة إعادة إنتاج الحرب السورية في السودان والحرب اليمنية في السودان
وقد تابع العالم كيف تم إجلاء الرعايا والدبلوماسيين من الخرطوم عبر رحلات برية إلى بورتسودان ورحلات بطائرات عسكرية إلى مختلف أركان الدنيا غادر فولكر وغادر السفير الأمريكي وترك الساسة الغافلين غير المعتبرين بما حاق بقوى الحرية والتغير في أفغانستان وهو اسم مجازي لقوى مرتبطة بالخارج أكثر من ارتباطها بشعبها جاءت في معية المحتل الأمريكي وحينما غادرت الطائرات الأمريكية مطار كابول بعد سقوط البلاد تحت أيادي الوطنيين الإسلاميين حاول البعض التشبث حتى بأجنحة الطائرات فسقطوا صرعي عوضا عن سقوطهم الأخلاقي والقيمي
ولكن قحاته السودان تركهم أولياء سلطتهم وأدار العالم الخارجي ظهره للسودان واستيأس المجتمع الدولي من إمكانية معالجة مشكلاته خاصة بعد أن نشبت الحرب الحالية بين جنرالات السلطة الطامعين في وراثة الحكم بعد أن تبين لهم ضعف الأحزاب وشغف قادتها بالمال الذي يملكه الجنرال حميدتي الذي يستحوذ على صادر الذهب بالشراكة مع الروس وشركتهم الأمنية العملاقة فانغر وفي ذات الوقت يحتفظ حميدتي بعلاقات جيده مع الولايات المتحدة الأمريكية
ولكن إذا كان العالم قد أدار ظهره فعليا لدولة اسمها السودان تقع في أطراف العالم العربي وبالتالي تصبح دولة غير مؤهلة لقيادة العرب عطفا على أنها مشكوك عند بعض العرب في عروبتها عطفا علي دور الجغرافيا حيث لابن خلدون نظرية بشأن الأطراف يقول فيها أن هامش الدول الطرفية لا يقود مركز الدول العربية والإسلامية مع ان ابن خلدون نفسه ثمرة للقاح الأطراف واسمه الذي يجهله الكثيرون أبوزيد محمد عبدالرحمن الحضرمي أي منسوبا لحضرموت في اليمن لكنه ولد في إشبيلية ونشأ في تونس وجميعها بقاع طرفية ولكنه أصبح وزيرا في مصر وتلك قصة نعود إليها في كتابات لاحقه عن مقدمة الرجل التي تمثل جماع اجتهاداته ورؤيته
بيد أن الأوروبيين المغادرين للسودان تعوزهم المرؤة والأخلاق فكيف لهم الرحيل باختيارهم وان يتركون أصدقائهم ومخبريهم والمخبر ( اسم الدلع الجاسوس) أو العميل ولاتزال مصارف بلادي المغلقة بأمر البنادق تطلق على زبائنها صفة عميل وهي صفة قذرة ترتبط بالذاكرة الجمعية لأهل السودان بالتخابر وتلك من ثقافة المجتمع المتعسكر وقد حدثت يوما صديقا وفيا هشام التهامي عبدالله من كبار المصرفيين ببنك النيل قبل أن يطرده من بنك ساهم فيه بالكدح والعرق السيد وجدي صالح وبعد عودة هشام بأمر القضاء تباعدت بيننا المسافات وقد غادرت انا الخرطوم ملفوظا وغادر هو القضارف وبقي السودان على حاله حتى جاءت الحرب الحالية التي لا يتوقع لها حلا قريبا إذا ما اعتمد قادتها على غير أنفسهم وتمادون في الإصغاء لمن رحلو عنهم ساعة العسر وتركهم في( السهلة) على قول الرئيس السابق عمر البشير حينما انقسم حزبه لوطني وشعبي وحينها قال (خلاص قعدنا في السهلة) فما اشبه الليلة البارحة غادر فولكر وغادر الكفلاء واخذو في معيتهم الرشيد سعيد وكيل الإعلام وعمر قمرالدين وزير الخارجية وحتى نصرالدين عبدالباري وتركوا الواثق البرير ومريم ومحمد الفكي سليمان في السهلة لكن يتفكرون ويتدبرون في الماضي والمستقبل ولكنهم جميعهم لو خيروهم لمن يستمعون من الغناء في هجعة الليل لاختاروا السماع لمحمد عثمان وردي لا لرائعة جيلي ولا أسف إسماعيل حسن ولكنهم يفضلون التجاني سعيد
قلت ارحل اشيل خطواتي من جيشنا النسي الألفة ومن دعمنا السريع الذي أبطأ في تنفيذ مشروع حلم التغير فوجد قائده حميدتي يعود للبدايات يلبس الكدمول ويقود اللاند كروز
ولن يجد حميدتي ما يردده من الشعر العربي غير غزلية المثقب العبدي التي تصلح لوصف حالة الجنرالين المتحاربين اليوم كل منهما يحدق في وجه الآخر ويقول له
فإما أن تكوني اخي بحق
فاعرف منك غثى من سميني
والا فاطرحني واتخذني
عدوا اتقيك وتتقيني
وماادري إذا يممت وجها
اريد الخير أيهما يليني
واللخير الذي انا ابتغيه
ام الشر الذي يبتغيني
وحتى لقاء آخر نسأل الله لبلادنا مخرجا مما هي فيه الآن من وحل ومسغبة وموت وفوضى وقعقه سلاح