إذا صح الخبر المتداول بأن والي الخرطوم قد قرر رفع الراتب الشهري لعامل النظافة إلي خمسين ألفا من الجنيهات بدلا من الخمسة ألف ، فإن ذلك عمل ونهج جديد يستحق اﻹشادة بل ويمكن اعتماده مؤشرا إيجابيا نحو التحرر من الروتين الظالم الذي هزم المواطن والوطن في الوقت نفسه ، إذ ظل أهل المهن والمنتجين هم ضحايا الظلم واﻹهمال وهضم الحقوق، ولعل خطوة ولاية الخرطوم لرفع الظلم عن عمال النظافة واﻹهتمام بهم والحرص على ان تكون رواتبهم الشهرية خمسين الفا بداية تصحيح الأوضاع التي جعلت السودان متأخرا عن ركب اﻷمم المتقدمة.
الملاحظ أن جامعاتنا تزدحم بالكليات النظرية ،بل ان الكليات العلمية لا تميل إلى التدريب والتأهيل العملي والمهني لخريجيها ، ماعدا بعض كليات الطب، ولا تشترط الكليات العلمية على خريجيها تقديم مشاريع تخرج مبتكرة داخل الحقل بالنسبة لطلاب الزراعة او البيطرة او من داخل الورش والمصانع بالنسبة لطلاب الهندسة وعلوم التقانة، مما يجعل خريجي الكليات العلمية يشبهون خريجي الكليات النظرية ولا اختلاف اﻹ في الشهادات وموقع العمل.
السؤال الحاضر اﻵن هل من الممكن أن تكون خطوة ولاية الخرطوم في تصحيح أوضاع عمال النظافة دافعا لكي تنشط في أوصال الدولة جرأة حقيقية لبناء وطن جديد عماده كفاءة المهندسين واصحاب الحرف والمبتكرين ، اصحاب البدل الزرقاء الملطخة بالزيوت والطين والوحل ،وخريجي الزراعة أصحاب المزارع وتنفيذ التقانة في الحقول ؟؟
الجرأة المطلوبة أن يتحول السودان إلى وطن يتقدمه المهنيون ويتصدر اصحاب المعاول والعمال المهرة وكل من يبذل جهدا قوامه التجربة والخبرة وانجازه انتاجا مشهودا وابتكارا معلوما ، ان يتصدر هؤلاء قائمة الرواتب الشهرية العالية والحوافز المستمرة ، ﻷنهم هم سواعد التغيير والبناء ، نحن في حاجة لنظم جريئة تشجع كليات الزراعة للدفع بطلابها للحقول للتدريب والتأهيل واﻹنتاج وتوظيف علم كليات اﻹقتصاد والتجارة لتحفيز طلابها ﻹبتكار نظم جديدة لحساب التكاليف من داخل الحقول ومن ثم المبادرة بتجديد نظم تجميع اﻹنتاج وتسويقه مع اﻹهتمام بطرق الحفظ والتغليف حتي يصبح مؤهلا للمنافسة في الاسواق، فالمؤهلون وحدهم من يستطيعون إحداث التغيير كيفما عملوا واينما كانت مواقعهم في القطاع العام او القطاع الخاص.
الخبرة العملية مطلوبة بشدة ولن نتقدم حتي يكون اصحاب الخبرة في المقدمة دائما، وليس أدل على اهمية اصحاب الخبرة العملية اﻹ قصة ذاك العامل الفني الماهر والذي ظل عاشقا للمطابع ورائحة اﻷحبار وأزيز ماكينات الطباعة، حتى عينوا له رئيسا من خريجي كليات الهندسة ، والذي منحه راتبا عاليا، على الرغم من أنه يأتي إلى مكتبه متأخرا ويعامل مرؤوسيه بصلف ولا يلبس افرولا ولا يقترب من المطبعة.
أما ذاك العامل الفني الماهر فقد كثرت أعبائه وظل صابرا علي أذي المهندس ﻷنه رئيسه في العمل ،حتي فكر يوما في كشف الحقيقة وتعرية المهندس وإظهار ضعف خبرته وعلمه وإن هندسته نظرية ولا تخدم الواقع ابدا، حضر العامل الماهر باكرا ثم عمد إلى المطبعة وسحب مسمارا صغيرا له مهمة اساسية في تدوير المطبعة ، وعندما حان وقت التشغيل لم يستطع احد تشغيل المطبعة فاتصلوا بالمدير العام للمؤسسة وبالطبع تم استدعاء المهندس ، همس صاحبنا للمدير العام ( نحن حاولنا خلوا مهندسكم يعالج المشكلة) ،وجد المهندس نفسه مضطرا لمحاولة تشغيل المطبعة وظل لثلاث ساعات يحاول دون جدوى ، طلب من المدير العام للمؤسسة ان يخاطب الشركة التي استجلبت المطبعة وركبتها، فوافق المدير وقال :- سنخاطب الشركة الأوروبية التي أنتجت المطبعة وركبتها ، عندها صاح العامل الفني الماهر مخاطبا المدير:-( خلاص مهندسكم ورئيسنا ماقادر يعالج المشكلة ؟)
التفت اليه المدير قائلا 🙁 مافي حل غير نخاطب الشركة ولا عندك حل تاني؟) رد العامل (عندي حل تاني وما بنحتاج للخواجات) ثم دخل تحت المطبعة وأعاد المسمار الصغير الي مكانه ثم خرج ليقف بجوار المدير والمهندس ويطلب من أحد زمﻻئه تشغيل المطبعة ليتفاجأ الجميع بدوران المطبعة وسط ذهول الحضور وخجل المهندس، والذي كتب صباح اليوم التالي الى المدير العام بمنح ذاك العامل الماهر نفس درجته الوظيفية ونفس المخصصات ﻷنه يستحق أن يكون هو رئيس القسم ، ومن حينها أصبح المهندس الخريج تلميذا يستفيد من خبرة العمال المهرة ، وتمضي اﻷيام ليجد المهندس فرصة للعمل خارج الوطن ، ولكنه كان حريصا على زيارة ذاك العامل الماهر واﻹعتراف له بأن ما تعلمه على يديه ساعده كثيرا في أداء مهامه في موقعه الجديد خارج الوطن.
اﻵن نحتاج إلي ان يكون المنتجون والعمال المهرة وكل اصحاب اﻷعمال الشاقة والمرهقة في مقدمة الصفوف وأن تكون رواتبهم ومخصصاتهم هي اﻷعلي في الدولة.