السودان الحالي الممتد من أقصى وادي حلفا شمالاً إلى حدوده مع جنوبه الحبيب، ومن أقصى شرقه إلى آخر نقاطه الغربية في دار اندوكة، تجمع بين شعوبه وقبائله المختلفة الكثير من ممسكات الوحدة الوطنية، ومغذيات نسيجها الإجتماعي، وهي أكثر بكثير من المفرقات أو مهدّدات التعايش السلمي والاجتماعي في هذا الوطن.
يبالغ بعض الساسة حين يصرّحون بأنّ السودانيين قد يتفقّون جملة بأن يذهبوا بهذا الوطن نحو المجهول، ويبالغ آخرون حين يتصورّون أنّ الهلّاميين من (اللايفجية) العنصريين قادرون على تغيير سماحة روح السودانيين وأصالة معدنهم، والتي جعلت بلادهم من أكثر بلاد الله انفتاحاً واستقبالاً للمهاجرين في الماضي والحاضر، ومواطنها أنزه وأعف مواطني العالم كما شهدت بذلك بحوث أكاديمية.
المخاوف من المواطنين والشباب على نحو أخصّ بضياع وطنهم من بين أيديهم هي مخاوف مشروعة، فهم يرون الموت والسيولة الأمنية وظواهر النهب تحت الإرغام وتهديد السّلاح وتصريحات هنا وهناك تحاول أن تضيف أبعاداً عرقيةً لهذه الجرائم بعزلها عن الأحوال العامة التي تشهدها الساحة السياسية المحلية وتداخلات ذلك مع التغيرات الخارجية.
ولأنّ تبديد المخاوف وتطمين القارئ أو المواطن أولى من شرح مبرّرات هذه الظّواهر، فإنّ ممسكات الوحدة الوطنيّة المقصودة في صدر هذا المقال تعد حائط الصدّ الأوّل، وأن أصل الدولة السودانية القريب جداً دولة ما بعد الاستعمار والضّارب بجذوره في القدم لآلاف السنين قبل الميلاد يبيّنان أنّ إرث هذه الدّولة من العادات والتقاليد والسلام الاجتماعي يمنع عنها مصارع السّوء.
كانت الغلبة في فترة ما قبل الاستقلال لما أطلق عليه لاحقاً الشعور الوطني الوحدوي المشترك والذي تنادى به حملة مشاعل التنوير في وطننا ورفعوا علم الاستقلال في الأربعينات والخمسينات ثورات عظيمة كثورة ود حبوبة السودانوية، وثورة علي عبداللطيف وعبد الفضيل الماظ، وكثير من الثوّار الذين تنادوْا لاحقاً لرفع مظالم عن أهلهم دون المساس بوحدة الوطن.
هذه المشاعر تكاد تجدها في تاريخ هذا الوطن عند كل قادته بدءاً من أسلافنا العظماء في مروي وشمال السودان الذين تركوا لنا حضارةً ومجداً تسير به الركبان منذ آلاف السنين إلى يوم النّأس هذا، وانتقالاً إلى رماة الحدق الذين رفضوا الدخول في الإسلام عنوةً، ودخلوه طواعيةً بعد تبادل ثقافي وتجاري مع المسلمين الأوائل، إلى عمارة دنقس مؤسس السلطنة الزرقاء الذي ذَبّ عن دولته في وجه السلطان سليم محذّراً ومذكّراً بأنّ غزو بلد مسلم ليس جهاداً في سبيل الله.
وفي القرن الماضي سطّر آباؤنا ملاحم تاريخية فريدة من سلطان دار اندوكة حامي حمي السودان في غربه من حملات الفرنسيين إلى عثمان دقنة الذي كتب فيه الأديب والمقاتل الإنجليزي قصيدته الفزي وزي، إلى معركة كرري الشهيرة التي صارت مضرب مثل في الشجاعة والإقدام في السّودان، والذين قال عنهم تشرشل رئيس الوزراء البريطاني هم أشجع من مشوْا على الأرض، إلى سلطان دارفور الأشهر علي دينار مؤرخاً لوحدةٍ وطنية عظيمة بين دارفور المحمل وسكان وسط السودان امتدت لأكثر من قرن الزمان.
إنّ الشعور الوطني الصّادق الذي كان عنواناً بارزاً لدى القادة والثّوار السودانيين، وحبّهم للسّودان والدّفاع عنه منذ فجر التاريخ إلى الوقت القريب، يثبت أنّ السّودانيين سيحملون هذا الوطن بين حدقات عيونهم، كما أنّ الصراعات القبلية التي تنشأ بين الحين والآخر أو الإقليمية التي شردت مواطنين من بلدانهم ليست معياراً أو مرجعاً لنا، فالسودانيون سيتجاوزون ذلك بما يحملونه من إرث عظيم في التعايش السلمي وتاريخ مجيد في البناء الحضاري والدّفاع عن ربوع وطنهم، وسيسلّمونه للأجيال اللاحقة وطناً حراً معافىً وناهضاً يتبوأ مكانته العالمية التي يريدها له شبابه.