ليس ثمة شك في وجود علاقة وثيقة بين الأمن الاستراتيجي للبلدان وبين الاستقلال الاقتصادي والسياسي .. إن الدولة التي لا تستطيع تأمين ثرواتها المائية والزراعية والمعدنية من المخاطر والتبذير وسوء الإدارة لهي دولة عاجزة عن ضمان أمنها السياسي و الاقتصادي والغذائي.
وحين تفقد الدولة قدرتها على تأمين الغذاء ومصادر الغذاء للمجتمع تظل رهينة للابتزاز وتقاطع المصالح الإقليمية الطامعة في ثرواتها جميعا .
فقد ظل السودان خلال الفترة الماضية رهن التجاذبات الإقليمية ذات التأثير المباشر في القرار السياسي مما جعل الأحزاب السياسية والقوى الفاعلة عرضة للاستقطاب السياسي والإقليمي بكل أطماعه وآماله في الاستفادة من الثروات السودانية .
لاسيما وأن العالم ظل في الفترات الاخيرة باحثا عن الموارد الاقتصادية المتمثلة في المياه والمواني والمعادن والأراضي الزراعية الخصبة الشاسعة لتأمين الغذاء لشعوبها في ظل النضوب وجفاف الموارد الذي تعاني منه معظم البلدان هذا بجانب التغييرات المناخية التي تجعل السودان محط اهتمام متعاظم من جميع الدول الطامعة والصديقة .
هذآ الواقع المتباين خلق تسابق محموم بين العديد من الدول لبسط هيمنتها على القرار السياسي في بلادنا مما عقد المشهد السياسي برمته وخلق نوعا من الفوضى الداخلية والتسابق المحموم في صياغة المشهد لصالح فريق دون اخر بقية ترجيح المصالح الجيوسياسية والاقتصادية في المستقبل القريب .
كما أن هذا الواقع المعقد جعل بلادنا تتخلي عن قسم كبير من سيادتها الاقتصادية ومن اختياراتها المتعلقة بالقرار السياسي .. فالبلاد المثقلة بالديون والعاجزة عن تقديم الحلول الناجعة في إدارة الأزمة الاقتصادية تكون عرضة للابتزاز والسيطرة على قراراتها الاستراتيجية .. وقد شهدنا ونشهد منذ أكثر من عقد من الزمان كيف أصبحت تدار الحياة السياسية الإقليمية لا من العواصم وإنماء من حكومات الظل المرتبطة بالمصالح الغربية والمانحين.. بصورة جعلت القرار الداخلي مرتهن لدى هذه الجهات .
فقد حدثت ثلاث ثورات في السودان خلال العقود الماضية نتج عنها تغيير للأنظمة السياسية بسلاسة دون أن ينشط الخارج الإقليمي والدولي في التأثير على القرار السياسي بهذه الكثافة التي نشهدها الآن والتي تعقد الوصول الي حلول او تسوية سياسية تنقل البلاد من عدم الاستقرار إلى الإستقرار بدلا من تطاول أمد الانتقال الذي يفتقد مشروعية التفويض الانتخابي والذي يوشك على الدخول في العام الخامس بعد التغيير الذي أطاح بحكومة عمر البشير .
علمآ بأن آخر تجارب الانتقال السودانية بعد الاطاحة بنظام الحكم كانت عقب فترة جعفر نميري في العام 86م حيث كانت البلاد تدير شأنها بقدر من الاستقلالية مكنتها من الانتقال الي حكومة منتخبة خلال عام من تصدر العسكريين للمشهد السياسي.. كانت الأحزاب خلال تلك الفترة تمتلك قرارها السياسي الوطني بمعزل عن التأثيرات الاقليمية والسياسية التي نشهدها اليوم .
هذا الواقع المأزوم ربما يقود البلاد في مرحلة من المراحل الي فقدان السيطرة الداخلية علي الوضع السياسي والأمني التي تظل محتملة في ظل عجز الدولة عن تأمين الدفاع عن كيانها ووحدتها الداخلية التي باتت مهددة في ظل تعدد الجيوش الطامعة في السلطة والمرتبطة بالمصالح الإقليمية.
بلا شك ذلك ربما يقود الي فقدان الدولة بالتدريج لسلطاتها علي الكيان الجغرافي والسياسي والاجتماعي وثقة المواطن.. مؤشر ذلك الصراعات القبلية والفوضى الأمنية الحادثة في عدد من الولايات التي ما أن يخبو لهيبها حتي تعود من جديد أشد ضراوة هذآ بجانب الانفلات الأمني في مركز السلطة وفقدان السيطرة الذي بات يشعر به المواطن في جوانب كثيرة من حياته الإجتماعية والإقتصادية والخدمية.
لذلك وجب الإنتباه لتدارك المخاطر التي ظلت حلقتها تتسع يوم بعد آخر في ظل غياب الأمل في الوصول الي تسوية سياسية ترضي جميع الأطراف بعيدا عن التأثيرات
خلاصة القول إن هذا الواقع المعقد ربما يقودنا الي ثلاث إحتمالات .. الاحتمال الأول الحرب الداخلية التي تقود لصناعة أمراء حرب في أجزاء متفرقة من البلد حيث مكامن الثروة والموارد فيسهل بعد ذلك السيطرة عليها و توظيفها لصالح الجهات المستفيدة من هذه الفوضى.
الإحتمال الثاني ندرة الغذاء وشظف العيش وقلة الموارد ربما تقود الي ثورة جياع تقتلع الجميع وتفرض واقعا جديدا ربما يفضي الي فوضي غير متحكم في مآلاتها او وفاق حكيم منتج بعيدا عن التأثيرات الإقليمية والدولية .
الإحتمال الثالث صعود خطاب التوافق الوطني بين الجميع ليفضي الي قدر من الاستقرار السياسي والاقتصادي وإستكمال حلقات الهياكل العدلية ينجز سياسات حكيمة وعادلة تمكن الجميع من استغلال الموارد وتحرك عجلة الاقتصاد وصولا لقدر من الأمن والسلام المجتمعي يمكن من قيام إنتخابات تشريعية عادلة يستطيع خلالها المواطن تفويض من يراه مناسبا لحكم البلاد.
هذه هي الاحتمالات والتحديات التي تندرج تحت عنوان دور النفوذ الدولي و الاقليمي في تعقيد المشهد السياسي في السودان في هذه الظروف التاريخية التي تمر بها بلادنا .. وهذا يتوجب نهوض الحكما من القيادات الوطنية والشركاء السياسيين والعسكريين للذهاب الي توافق استراتيجي لحماية أمننا القومي بعيدا عن التأثيرات الإقليمية والدولية والاستفادة من الفرص العظيمة التي تحوزها بلادنا في جانب الموارد والثروات المتنوعة.. غير ذلك فعلينا أن ننتظر الأسوأ حين لاينفع الندم ولايصلح رتق الفتق بعد اتساع.
هذا واجبنا كإعلاميين.. نقول كلمتنا للحق والحقيقة والتاريخ ونمضي لعلها تسمع العقلاء او من به صمم.
دمتم بخير