تم إنشاء أول خط سكة حديد في السودان في عهد الحكم التركي المصري في عام 1875، وبدأ من حلفا وصولاً الخرطوم مروراً بأبي حمد وعطبرة ، وسواكن، ثم خط الخرطوم مدني، وامتد غرباً حتى الأبيض ثم سنار القضارق كسلا بورتسودان هيا، وامتد أقصى الغرب حتى نيالا وجنوباً حتى واو.
وقد كان للسكة حديد دور اقتصادي كبير في نقل الركاب والبضائع ، وكانت السكة حديد في وجدان الشعب السوداني حاضرة بصافراتها وقطاراتها وعمالها، وكان لعمال السكة حديد دور بارز في النضال من أجل استقلال السودان ، وتعدت جهودهم إلى تنظيم أنفسهم نقابياً وسياسياً ضد الاستعمار البريطاني ، بل وأولى لبنات الوعي السياسي والحقوقي والنقابي من أجل الاستقلال وتحقيق المساواة بين فقراء البلاد واغنيائها نبعت من عمال السكة الحديد .
بالإضافة لأدوارها الاقتصادية والسياسية فقد ربطت السكة حديد الشعب السوداني اجتماعياً، فقد كانت الأسر تتلاقى داخل القطارات ، وتخلق تعارفاً وتمازجاً سودانياً عفوياً ! ، فكم من أُسر تصاهرات بسبب المعرفة داخل صوالين تلك القطارات ، وعربات الدرجة الثانية والثالثة، وحتي الدور الثقافي للسكة حديد كان حاضراً في وجدان المواطن السوداني، فقد نُظِم أجود الشعر والغناء في القطارات والرحلات، وكانت أجمل الذكريات ، وقد أجاد الشاعر أبو صلاح حين نظم وقال :
من بُف نفسك يا القطار ورزيم صدرك قلبي طار وين الحبيب
إنت شلتو جيبو يا القطار
وغيرها من أهازيج ومشاعر جيّاشة ومواقف مؤثرة كان سببها الناقل الوطني العظيم سكك حديد السودان .
ولكن بسبب سياسات الحكومات المتعاقبة، وخلط المواقف السياسية بالوطنية ، تم تشريد عمال السكة حديد،
و قُطِّعت أوصالها وبيعت قضبانها ، وسجلات أقسام شرطة السكة حديد حافلة بالبلاغات المدوّنة ، بمتهميها ومعروضاتها ، تؤكد صدق دعواي ، محطة عطبرة التي كانت قطاراتها تملأ الساحة ، صارت دكاكين خرسانية استثمارية مصطفّة على امتداد الرصيف الذي كان في يومٍ ما محظور وممنوع أن تضع بجانبه "طوبة" فيطالك العقاب الرادع !!… أما محطات الشمال الأخرى فقد هجم عليها الزحف الصحراوي ولم يترك لها أثراً غير رؤوس القباب في بؤس وقحط وشقاء ! .
وبعد فقدان الأمل فيها مثلها ومثل أي مؤسسة قديمة أصيلة استلمناها من الإنجليز نظيفة مثل " صحن الصيني" ، سعدنا قبل عام بإعلان المهندس ميرغني موسى وزير النقل عودة رحلة القطارات والتي تبدأ بخط الخرطوم عطبرة هيا حبيت بورتسودان لأول مرة منذ ستة عشر عاما، بداية انطلاق لمساعي الوزارة لإحياء دور السكة حديد لربط ولايات البلاد ببعضها وبتكلفة اقتصادية مناسبة وخدمات متكاملة، حيث أكد الوزير في ذلك الوقت وفي حسابه على فيس بوك أن الرحلة الاستطلاعية الأولى ستكون بعد أيام من بورتسودان لمعرفة حجم الطلب وتحديد ايام الرحلات.
ونحن نعيش مع تلك الآمال العراض، إذ تأتينا الأخبار المؤسفة قبل أيام بوقوع حادث قطار سببه وجود 22 فلنكة بدون مثبتات (مسامير)، حيث صرّح مدير عام الهيئة بأن هناك مخاطر كبيرة تواجه قطاع السكة حديد تتمثل في التعدي على مثبتات القضبان وسرقة الفلنكات، وقال في حديث لقناة النيل الأزرق أنّ التعديات نوعان، من أجل الحصول على الحديد وبيعه بالوزن ، وبغرض التخريب العمدي، وقال أن غالبية الذين تم القبض عليهم في جرائم نهب السكة الحديد هم ( أطفال ) !! .
نقول للسيد المدير ليس هناك طفل يتكبد كل تلك المخاطر ويواجه الحديد، وسرقة الحديد ، إن لم يكن وراؤه كبير ، ومجرم خطير ! .
آن الأوان أن تعود للسكة حديد قوانينها الرادعة ، ولافتاتها المحذِّرة المرعِبة : (سكّة حديد خطر ) ، وشرطتها القوية المنتشرة في كل ربوع السودان حارسة المحطات والقضبان ، وفوق ذلك مراقبة المسئولين والمرور الدوري بين كل محطة ب(التِّرُلّي) و (حمار بابور ) ، ومراجعة (الدّرّاسة) وإكتشافهم أوّل بأول لكل أثر لتخريب . وفوق كل ذلك ليس مكلِّف، مقارنةً مع دخل السكة حديد ، بأن تتكفّل الهيئة بتوفير كاميرات مراقبة لكل خطوط السكة الحديد ، وألّا تستصغر وتتجاهل جرائم السكة حديد ، فوراء كل صغير و"جاهل" زول كبير… وخلف كل زول كبير ( مجرم كبير وخطير )، وعلى مدراء ومسئولي هيئة السكة حديد أن "يبقوا كبار قدر السكة حديد".. وإلّا فليتنحّوا، حفاظاً على هذا التاريخ التليد .