فلسطين قضية عربية عايشناها منذ الصغر ، وتفاعلنا وانفعلنا معها ، حتى دخلت في كل بيت من بيوتنا عبر إذاعة أم درمان في ذلك الزمان ، حين كانت أم درمان ، بعد إفتتاح القرآن ، تبدأ بتلك الأغنية الدلوكية الشعبية الحماسية كل صباح :
فلسطين تناديكم يا رجال العرب تحيا وتعيش بيكم
ثم دخلت هذه القضية الهامة في كل مدرسة حيث طابور الصباح ونحن نتفوّه بلسان الطفل الفلسطيني :
أنا لن أعيش مشرّدا – أنا لن أظل مقيّدا
وتمر السنوات ويشتد الغضب الشعبي العربي على إسرائيل ، حتى كانت الحرب العربية الإسرائيلية في 5 يونيو 1967،”حرب النكبة” والتي استمرت لمدة ستة أيام ، انتصرت فيها إسرائيل ، واحتلت شبه جزيرة سيناء، وقطاع غزة، والضفة الغربية والقدس، ومرتفعات الجولان السورية. والعرب على ذلك الحال المخزي ، وينعقد مؤتمر القمة العربية الرابع في الخرطوم، والذي خرج منه القادة العرب بروح معنوية عالية، والتمسك بالثوابت من خلال لاءات ثلاث ، هي ، لا صلح ، ولا اعتراف ، ولا تفاوض مع العدو، حتى يعود الحق لأصحابه.
وقمة الخرطوم على ذلك المبدأ والموقف الصارم ، إذ يتم توقيع إتفاق سلام الشرق الأوسط بين مصر وإسرائيل في 17 سبتمبر 1978، فيما عُرِف باتفاقية كامب ديفيد . وتمر السنوات ، ويدخل الفلسطينيون أنفسهم “أهل الجلد والراس” في اتفاق مع إسرائيل ، وسُمِّي باتفاقية “أوسلو” بين حكومة إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية في عام 1993 بواشنطن ، والتي بموجبها أعطي الفلسطينيون حكم ذاتي إنتقالي. وفلسطين ومصر تدخلان دائرة التطبيع ، إذ تنضم الإمارات العربية المتحدة والبحرين والمغرب بتطبيع علاقاتها مع إسرائيل برعاية واشنطن. ومن هنا بدأ العد التنازلي في ضياع القضية الفلسطينية، وكسر وحدة الإجماع العربي، وقلّة الحماس، ولم يبق في مواجهة إسرائيل، إلا منظمة حماس وقليل من الدول العربية من بينها السودان .
لكن كل ما حدث من تطبيع من علاقات مع تلك الدول لم يكن ذو أهمية مثل ما ترجوه وتتمناه إسرائيل ، فإسرائيل كانت عينها دائماً على الخرطوم “رأس الحيّة”! منبع “اللاءات الثلاث”، ولن يهدأ لإسرائيل بال مالم يوقِّع السودان ويطبِّع، سيّما، وأنّ كل الحكومات المتعاقبة بعد الإستقلال، عسكرية كانت أم مدنية كانت في موقف واحد ، هو تصنيفها لإسرائيل عدو للأمة العربية ، وكانت تلك الحكومات ملتزمة تماماً بمقررات القمة العربية الرابعة . وفي عهد حكومة البشير بلغت الخصومة الإسرائيلية ذروتها، حين اتهمت إسرائيل الإنقاذ بأنها الداعم الرئيسي لحماس بالتدريب والسلاح ، وأنّ مجاهدي السودان لن يجعلوا إسرائيل في مأمن ، وخاصةً أنّ هذه الحكومة الإسلامية قد أنجبت مولوداً ، سمّته “الدعم السريع”إسمه الحركي”ق د س” (قدس) ، مما يعني أنّ عين الإنقاذ مازالت على العاصمة الفلسطينية (القدس) ! وأنّ هذا المولود الجديد قد وُلِد بأسنانه ، ونجح في تأمين الحدود الغربية مع ليبيا، والحد من جريمة الإتجار بالبشر ، بشهادة الإتحاد الأوربي وفرنسا، كما أنّ الدعم السريع قد خاض تجربة لا بأس بها في حرب اليمن ، ومن هنا إزداد جنون إسرائيل ، وحاولت المستحيل لتجد مدخلاً للتطبيع مع الخرطوم ، ووجدت كل الأبواب موصدة في وجهها، حتى أزيح حكم الإنقاذ بثورة ديسمبر ، وعادت إسرائيل من جديد على أمل التطبيع ، لترغِّب وتقنع القائمين على الفترة الإنتقالية. وفي يناير 2021 ، وقَعَت الخرطوم في غرام وحبال التطبيع !… ووقَّعت إتفاقية تطبيع مع إسرائيل ، وحصلت على مساعدة مالية من الولايات المتحدة ، بعد أسابيع قليلة من شطب اسم السودان من القائمة الأمريكية للدول المتهمة بتمويل الإرهاب، إلّا أنّ رئيس مجلس الوزراء د. عبد الله حمدوك ، كان له موقفاً آخر مغايِر ، وكان صريحاً واضحاً ، حين قال بالحرف الواحد أنّه :(يرحِّب برفع اسم بلاده عن القائمة الأمريكية لدعم الإرهاب ، لكن المجلس التشريعي المقبل هو الذي سينظر في إجازة التطبيع مع إسرائيل) ، وهذا ما أثار حفيظة إسرائيل وأمريكا، وكان تصريحه هذا هو “القشّة التي قصمت ظهر حمدوك” ! فعجّل برحيله. وبعد تولي البرهان السلطة في أكتوبر 2021 ، أكد أنه لايزال ملتزماً بالإتفاقيات الدولية التي وقّعتها بلاده.
وأمس تحمل الأنباء فوز نتنياهو في الإنتخابات التشريعية في الأول من نوفمبر إلى جانب حلفائه من اليمين المتطرف واليهود المتدينين، وتم تكليفه رسمياً يوم الأحد بتشكيل الحكومة. وعقب ذلك تحمل الأنباء بأنّ قائد الجيش السوداني الفريق أول عبد الفتاح البرهان ، قد بعث برسالة…