فكرة إنشاء الشرطة المجتمعية ، هي خلق شراكة قوية بين أفراد المجتمع والشرطة للقيام ببسط الأمن ، خاصة أنّ أهل الحي هم أدري بشعابه ، وأدري بأي خلل أمني ، مثل أماكن ترويج المخدرات والخمور ومعتادي جرائم السرقات واستلام المال المسروق وخلافه .
بدأت فكرة إنشاء الشرطة المجتمعية في أمريكا أوائل الستينيات، عندما تزايدت ظاهرة انتشار المخدرات ، فصدر قانون عام 1968 للحد من الجريمة، ومشاركة المجتمع لرجال الأمن في حفظ الأمن والنظام، والوقاية والحد من الجريمة، من خلال المفهوم الجديد للشرطة المجتمعية.
وتوسّعت هذه الفكرة داخل أمريكا وانتقلت لبلدان العالم مثل فرنسا وبريطانيا وأستراليا وألمانيا وبلجيكا وهولندا واليابان وبعض الدول العربية وأهمها مصر والإمارات العربية ، وقد نجحت التجربة بشكل كبير ، ولاقت رواجاً واستحساناً وبالتالي الحد من الجريمة في تلك البلدان .
نحن في السودان ليس في معزلٍ عن العالم ، بل أحوج من أي دولة أخرى لخلق رابطة قوية بين المواطن والشرطة ، فلتكن تحت أي مسمّى ، المهم أن تكون هناك علاقة وطيدة بين المواطن والشرطة ، وشراكة تبسط الأمن في الحي ثم المدينة بالمحلية والولاية، والسودان.
نحن أحوج لهذه الشراكة في ظل ميزانية دولة متهالكة ، تعجز أن توفر عربات الحوادث لمعظم أقسام الشرطة في العاصمة الخرطوم ،ناهيك عن الولايات !، بل وتعجز أن تقوم بترحيل القوة العاملة من وإلى تلك الأقسام ، وترحيل المنتظرين والمساجين إلى جلسات المحاكم والسجون ! ، وإذا كان رئيس القسم لا يملك العربة التي يتنقّل بها، وتشجِّعه ليتفقّد القسم والنقاط والدوريات على رأس كل ساعة ! ، دعك من باقي المستلزمات من توفير الوقود وسائر الأدوات ا !. وأحياناً افتقار القسم للمرافق الصحية !!.. و الإنارة !، ليدوِّن كاتب البلاغات بلاغه بالشمعة !. إن وُجِدت !.
نحن أحوج لمثل هذه الشراكة، ومد الشرطة يدها لفئات المجتمع السوداني ، وخاصة الشباب الذي وصفها بأسوأ الألفاظ “بوليس جري”!… وهو يجري ! … وعندما يجري لايريد مزيداً من سفك الدماء في مواجهة شباب شرس ، “أُنثاهُ” وصفوها في الميدان ب “صائدة البمبان”! ، وملكه يحمل “درقة” و”بمبان” و”مافيش حد أحسن من حد” !.. وآخر التعامل مع فض الشغب بعمليات الرش التي عادت برداً وسلاماً على كل” مان”! ، فكان لابد من التصالح..
فالشباب هم شباب السودان ، والشرطة هي شرطة السودان.. وآن الأوان للشباب أن ينظم صفّه ويكوِّن كيان سياسي للوصول لأبعد غايته في المشاركة في السلطة ، بدلاً عن معركة، الخاسر فيها هو ، و الشرطة، والشوارع، واعمدة الكهرباء، و” الإنترلوك”، والمباني والحيطان ، وتعطيل حركة وحياة الإنسان، في مواجهات ليس لنهايتها زمان ! .
وبخلق شراكة مع ميسوري الحال ورجال الأعمال ومديري الشركات عبر لجان داعمة ، داخل كل دائرة اختصاص يمكن أن تُسَد تلك الفجوة بدعم تلك الأقسام بتوفير تلك الاحتياجات ومعينات العمل التي عجزت عن توفيرها الدولة .
ولسد العجز المرير في القوات وعدم الرغبة في الإنخراط في سلك الشرطة لضعف المرتبات وعوامل أخرى كثيرة ، يمكن خلق شراكة مع شباب الأحياء واللجان الإدارية بمد الشرطة على الأقل بالمعلومات عن أماكن ترويج المخدرات وبيع الخمور ، واستلام الأموال المسروقة وأماكن الدعارة وخلافها من جرائم تعكر صفو أمن تلك الإحياء ،
وتشجيع الشباب للشرطة بالمرور معها لحماية تلك الأحياء ليلاً ، في ظل جو غاتم ، وجرائم كسر وسرقات تزداد كل يوم ، وانهيار أمني مريع ومخيف، وعلني في بعض الأحيان من خطف من قبل ظاهرة “9 طويلة”، ونسمع بخطف ونهب وقبض.. ولا نسمع بمحكمة رادعة واحدة على مشهد ليتعظ من يتعظ !
ومن مخدرات دخلت البلاد بالحاويات، حين يتم ضبطها بدون متهمين ، ويتم تدوينها معروضات ! ، وضد مجهول ، والداني والقاصي يعلم أنّ “المخدِّرات حيازة” !!ولاتحتاج لمجهود من التحري ، وبالتالي تظل تلك الحاويات المعروضات “مُعلّقة” دون محاكمات ، ودون تسديد لتلك البلاغات !.
وفي ظل إدارة عامّة للمخدرات تقف عاجزة بسبب عدم وجود أدنى الإمكانيات ، كل ذلك جعل من وطننا السودان مرتع خصب لشبكات تجار المخدرات، وفاتحة شهيّة ، استغلها ذوو النفوس الضعيفة في الكسب الحرام وغسيل الأموال ، بل وزراعة آلاف الأفدنة من الإنتاج المحلي في مناطق الردوم وغيرها ، يدمِّرون عقول الشباب ، ويخرِّبون البيوت ، حتى انتشر ترويج وتعاطي المخدرات مثل البنقو و”الترامادول”، وظهور أنواع جديدة خطيرة مثل “الآيس”، والذي من مخاطره أنّ إدمانه يتم من أوّل جرعة
وتناول هذه الجرعة تجعل المدمن في شبع ونوم عميق لمدة ثلاثة أيام ، وأوّل ما يفيق ينهض كالثور الهائج ، ويحطِّم كل شيئ أمامه ! ، ويضرب كل من يقف في طريقه ، وبأقرب آلة حادة ينهي حياة شقيقه وأبيه ! ..ومضابط الشرطة تؤكد ذلك !، وتبقى المأساة! ، وتنتهي الجريمة بانتهاء وضع المدمن في المصحّة .. و بانتهاء مراسم الدفن !!، ويبقى البيت مقبرة لاحياة تنبض فيه ، مهما كان فيه من وسائل المتعة والراحة ! .
وكانت نتيجة إنتشار تلك المخدرات بهذه الصورة المخيفة المريعة ، وحسب تقارير رسمية، وفي العام الماضي 2021 فقط ، دخول 13 ألف حالة تعاطي للمخدرات إلى مراكز معالجة الإدمان، تتراوح أعمار المدمنين ما بين 14 إلي 24 سنة، في المراحل الدراسية المختلفة، هؤلاء فقط من يكون ذويهم من ميسوري الحال واستطاعة دفع تكاليف العلاج التي تصل لمبلغ مائتي ألف في الأسبوع الواحد
، أمّا من يهيمون في طرقات الأحياء والمدن فلا يمكن حصرهم ، ومن لا تعرف أسرهم تلك الممارسات لا يُحصَوا !. باختصار انتشرت المخدرات في السودان لدرجة أن تسمع بأنها يتم تقديمها في بعض المحلات العامة داخل فنجان قهوة مع كوب ماء !!.
وفوق ذلك العطالة التي تفشّت وسط الشباب والفراغ، والضغوط الإقتصادية لجلب المال بأي وسيلة، حتى ولو كنت مروج لتلك الآفة وسط الحي، بمرتب أو ب”نسبة” لتضر نفسك وتضر غيرك والمجتمع بأثره “، وكم من بلاغ سببه كيد الصديق بأن يضع حبوب مخدرة في مقعد عربة صاحبه كيداً وانتقام ، !! وما أكثرها هذه الأيام .!!.
أمّا الدّعارة ، والتي تبدأ من أول نظرة.. وكشف المحاسن… ورقم التلفون.. وَالوعد..وخطوة شيطانية تقود للقاء.. وفعل… وحمل.. وولادة مخفية..وهذه في حد ذاتها جريمة ثانية، وخروج رضيع وقتله، وهذه جريمة ثالثة … ومشرحة مستشفى الخرطوم وحدها
في آخر إحصائية قبل تسع سنوات كانت تستقبل شهرياً مابين 300 إلى 500 جثة طفل حديثي الولادة مجهولي الهوية، ودار المايقوما في مثل هذه الأيام تستقبل يومياً بمعدل طفلين غير شرعيين ! ، هذا عن الخرطوم !، وفي الخرطوم من يتم التبليغ عنه ، وما تم دفنه أعظم !، وماتم رميه للكلاب أفظع !..
وما تم في ظلمات الدجى في بقية ولايات السودان لا يُحصي ولا يُعد !!. ومن سلم من القتل، يتعثّر من خور إلى خور! ، ومن خرابة إلى خرابة! حتى يشب… ويتسوّق في الكوشة.. أي والله! .. يسترزق من فضلات الطعام مع الكلاب، والذي يريد أن يعيش من كسب يده يبحث في تلك الكوشة عن مواد البلاستيك ليبيعها لتسد رمقه !
والذي يريد أن يعيش في جوٍ آخر.. بعيداً عن جو الثورية والفترة الإنتقالية والمدنية والعسكرية فرصيده زجاجة بنزين في عنقها “دلقون”، ليشم.. ويشم !!في آخر “سطلة” وانتعاشة… على مرأي من أعين المارّة في معظم التقاطعات كل صباح ليعكس اللوحة السيئة لكل مواطن ووافد (صباحك يا بلد)!!!
وعن تناول شرب الخمر ، وقد ذكرت أن منظمة الصحة العالمية قبل ثمانية أعوام جاء في تقريرها السنوي أنّ السودان يُعتبر في المركز الثاني عربياً في شرب الخمر بعد تونس!!.. هذا قبل ثمانية أعوام.. فكيف بحالنا اليوم والخمور البلدية من “عرقي” و”مريسة” في كل سكن عشوائي !
ما تقوم به الشرطة من مجهودات وحملات ونشاهده من مئات براميل البلح المخمر، وآلاف الجركانات المعدة للبيع في خمسة أحياء فقط من العاصمة ،وعلى فترات، يوضح أنّ إنتاج العاصمة والولايات من هذه الخمور يبلغ يومياً ملايين البراميل . هذا فضلاً عن الخمور المستوردة والتي أمست تدخل عبر التهريب والحدود المفتوحة ويتم تداولها على مستوى كبارات المجتمعات ، وبالتالي عودة “القعدات” بأكثر مما كان زمن “البارات” وما كانت تنتجه المصانع المحلية من جنس “البيرة أبو جمل” وخلافها !!.
وفوق كل ذلك ، وهذا الخطر الذي يحيط بكل أسرة سودانية، مازلنا في حجة “هلا ريخ” “المسيخة” التي حطمّت كرتنا السودانية، وانتقلت عدواها إلى “قُحّت” و”كوز “!.. حتى بلغ بنا الحال وإن تم التحذير من هذا الداء الخطير يتم إلصاقك بتهمة”الكوز “حتى كاد أن يتراجع من أصدر قرار حماية المجتمعات من هذه الآفات بسبب النقد اللاذع والهجمات !!
وهو قرار كما ذكرت في قيدي السابق ليس فيه تشريع جديد.. التشريع هو القانون الجنائي الذي وُضِع قبل أربعين عام، والجديد هو خلق علاقة قوية بين الشرطة والمجتمع، لإرساء قواعد أمن مستتب، والأمن هو (دائرة كبيرة) نصفها الشرطة بقواتها ومؤهلاتها… والنصف الآخر هو المواطن بدعم الشرطة بالمعلومة والدعم المعنوي والمادي من ميسوري الحال بإكمال نواقص معينات الشرطة.
عموماً… الصورة قد وضحت تماما.. ولن نستطيع إيضاحها أكثر من ذلك.
وللشعب الخيار
اللهم بلّغنا فاشهد