معلوم في السودان أنّ أهم أسباب الخلاف السياسي بين اليمين واليسار ومنذ الإستقلال ، هو الإختلاف في أهم مواد الدستور السوداني ، الذي تندرج تحته كل القوانين ، وهي الباب الأول “السيادة والدولة” ومنذ أكثر من خمسين عاماً نص الدستور على : ( أنّ مصدري التشريع هما الشريعة الإسلامية والعرف ، والأحوال الشخصية لغير المسلمين يحكمها القانون الخاص بهم ) . وطيلة هذه الخمسين عاماً حاولت قوي اليسار التعديل في هذا الباب، وبالأحري إلغاء نص مصدر التشريع “الشريعةالإسلامية”، وكل تلك الأحزاب اليسارية التي شاركت في المجالس التشريعية في الحكومات الديمقراطية والعسكرية، لم تنجح في إزاحة ” كلمة الشريعة” بحكم أقليتها وتمثيلها في تلك المجالس، وبحكم أنّ غالبية عضوية تلك المجالس التشريعية هي من المسلمين، وأنّ التصويت للشريعة هو أمر دين وذِمّة.
وبعد خمسين عاماً ، جاءت الفرصة الآن لليسار ، مُمثّل في قوي الحرية والتغيير ، التي تبنّت مسودة لدستور جديد ، تمت صياغتها من قبل نقابة المحامين ، بتأييد من بعض الأحزاب، وأهم معالم مسودّة هذا الدستور الجديد ، هي ( جمهورية السودان دولة ديمقراطية فيدرالية، تتعدد وتتعايش فيها الثقافات والإثنيات واللغات والمذاهب والأديان ) ، وهذا ما يرفضه اليمين، إذ في نظره أنّ الغالبية العظمي من أهل السودان هم مسلمون ، ويُفترض أن يتم تأجيل إعداد هذا الدستور لسلطة تأسيسية ، وهي المجلس التشريع الإنتقالي، الذي لم يتم تكوينه بعد ، ويمكن إجراء تعديلات على الوثيقة الدستورية ، تتماشى مع باقي الفترة الإنتقالية، بإجماع الأحزاب ، عدا المؤتمر الوطني ، حسب ما اتفق عليه ، لكن قوي اليسار تُصر على تمرير هذه المسودة ، والتي بتمريرها وإجازتها كوثيقة دستورية، سيتم التغيير في مواد القانون الجنائي السوداني ، وهذا هو مربط الفرس في كل الجدل الدائر الآن بين المكوِّن العسكري المسنود من اليمين ، والمكوِّن المدني المسنود من اليسار ، عدا الحزب الشيوعي الرافض للوثيقة ، مع تأييد حزب المؤتمر الشعبي اليميني للوثيقة . وفي هذا أظهر الغرب إنحيازه الكامل لهذا المشروع الذي قاتلت أمريكا وحلفاؤها عشرات السنين لإلغاء كلمة “شريعة” من الدستور السوداني ولم تفلح، بحجة عدم إقحام الأديان في الدساتير مع العلم أنّ ملكة بريطانيا التي توفيت قبل أيام ، وملك بريطانيا الذي استلم الآن المهام ، أولى مهامهما، وبنص الدستور ، هو رعاية الكنيسة ودعمها ، في الوقت الذي فيه آلاف المسلمين ومئات المساجد ببريطانيا ! . ويرى المراقبون الإنحياز الواضح لبعثة الأمم المتحدة في تجاهلها لكل المبادرات السودانية، وهرولة رئيس بعثتها “فولكر” لدار المحامين، عندما كانت الوثيقة في مهدها وتُصاغ بالأحرف الأولى ، في الوقت الذي كان فيه أكثر من ستين دبلوماسي في أم ضواً بأن !. وما أن تم تكثيف الإعلام المحلي عليها، حتى خرجت لجنة الشئون الخارجية بمجلس النواب الأمريكي أمس لترحب بمشروع الإعلان الدستوري الذي أعدته مبادرة اللجنة التسييرية لنقابة المحامين ، وظهر الحزب اليميني الوحيد، المؤتمر الشعبي ، على لسان أمينه السياسي كمال عمر ، وصرّح للإنتباهة أمس ، بخلو مشروع مبادرة المحامين من أي حديث عن “سيداو” وزاد “نحن من المطبخ الذي كتب المشروع ووقّع عليه”. وتوالت ردود الأفعال على هذه الوثيقة المقترحة، حيث أشار د. نبيه نبيل في مقابلة مع “راديو دبنقا” إلى أن إعداد دستور إنتقالي يتطلب وجود سلطة تأسيسية وهي غير موجودة حالياً، وقال أنّ هذا المشروع يعبر عن رأي اللجنة التسييرية للنقابة، ولا علاقة له بورشة الإطار الدستوري ، ويرى محلل سياسي بأن هذه الفرصة الوحيدة ليمرر المجتمع الدولي أجندته واقتلاع كلمة” شريعة” من الدستور ، وقال آخر ، خروج نساء مدافعات أمس عن حقوق المرأة وتنظيمات نسائية، وتسليم مذكرة للمفوض السامي لحقوق الإنسان بإلغاء عقوبة الرجم ، يؤكد أنّ الأمر قد تم حبكه تماماً ، وفي هذا الوقت بالذات، بالرغم من أنّ عقوبة الرجم منذ أن وَضعها المشرِّع لم تُطبّق ، مما يؤكد أنّ المقصود هو “الشريعة “، لا غيرها ، وممّا زاد القضية بروزاً في الساحة السودانية، هو تصريح نائب رئيس مجلس السيادة وترحيبه بالمشروع ، لكنه أضاف بأنه سيطلع على ما جاء فيه لإبداء الرأي وتقديم الملاحظات بشأنه، وقبل أن يطلع ويبدي ملاحظاته اعتبرت قوي الحرية والتغيير أنّ تصريح “حميدتي”، مكسب كبير لهم ، خاصةً وأنّ الرجل يمثِّل المكوِّن العسكري الذي يقف ضد هذا المشروع ، ويرى محلِّلون أنّ “حميدتي” منذ أن ظهر في الساحة السياسية السودانية، كل مخاطباته كانت يمينية، يبدأها بالبسملة، والحمد والثناء والصلاة على رسول الله، صلى الله عليه وسلم ، فهل ستتغيّر مواقفه اليمينية ثلاثمائة وستين درجة ليسارية ؟! ، ويرى أخر أنه اُخِذ بجزء من حديثه، وتم ترك الآخر، الذي قال فيه “سيطلع ثم يبدي رأيه” وكان الأوجب الإنتظار حتى يعطي رأيه كاملاً في هذا الأمر. ويرى آخرون أنّ المجتمع الدولي يعوِّل كثيراً على مواقف “حميدتي” ، وربما يخلق منه رجل المرحلة ، بدليل أنّ مجلس الأمن في جلسته أمس الأول ، امتدح في تقرير مفصّل ، الدور الكبير الذي يقوم به نائب رئيس مجلس السيادة محمد حمدان دقلو وقوات الدعم السريع بالإشراف على مصالحات قبلية عدة في إقليم دارفور وفي النيل الأزرق والمساعدة في استتباب الأمن .
وحتى تخطو كل المكونات السياسية خطوةً للأمام ، المطلوب ترك كل ماهو سبب للخلاف ، وعدم تمرير أي أجندة خارجية تزيد من تأجيج الصراع ، فالدولة السودانية أهم متطلباتها الآن هي قيام هياكل الحكم ، بدءاً من تكوين مجلس السيادة، ومجلس الوزراء، والمجلس التشريعي الإنتقالي، والمحكمة الدستورية، والنيابة العامة، والمفوضيات، وغيرها ، والإعداد للإنتخابات ، إذ لا يُعقل إقحام مواضيع محلها “المجلس التشريعي” الذي يجيز الدستور وكافة القوانين. وعندما يتم عرض الدستور السوداني على ذلك المجلس وإجازته، عندها، كل القوى السياسية ترضى بما قرّره المجلس التشريعي . أمّا ما يتم الآن فهو تجهيز “سرج” قبل شراء “الحصان”، في وقتٍ فيه يكابد المواطن السوداني للقمة العيش ، ويريد فقط هياكل دولة و”طاحونة تدرش العيش”… هذا إن وُجِد العيش !
والله المستعان