كتبتُ في العام الماضي، وتحديداً يوم 17 فبراير 2021 ، مقالاً بعنوان : ( ولماذا لا يحكم مِثل د. جبريل إبراهيم السودان ؟!!! ). وكان سبب نشر المقال هو تناقُل بعض وسائط التواصل الاجتماعي والأسافير عن د. جبريل مقطع “فيديو” صابّةً جام غضبها عليه ، لمخاطبته أنصار حزبه بأنه يريد حكم السودان ، وأنّه وافق على منصب وزير المالية ليضمن مستحقّات السلام وإرجاع الحق لأهله، وكتبتُ وقلت بكل حيادية ، وبدون أدنى حسّاسيّة ، ”
لماذا لا يحكم مثل د. جبريل إبراهيم السودان، والرجل قد نشأ يتيماً وفقيراً ، واعتمد على نفسه وجدّ واجتهد حتى تخرّج في أفضل وأرقي الجامعات ؟! .. بل ظل ينشد العلا ويبحث في أمّهات الكتب والمراجع وهو حتى بين حيطان سجن كوبر ، ليزيد معارفه ، متحديّاً كل الصعاب. ولماذا لا يُمنِّي نفسه بحكم السودان وكل رئيس حزب سوداني يتطلّع أن يحكم السودان لينفِّذ برنامج حزبه وخطته ؟! “.
وقلتُ : “ولماذا يُؤخَذ عليه قوله أنّه يريد أن يضمن وصول استحقاقات السلام ؟!! ..أليس هي حقوق شعب يعيش من قديم الزمان وحتي الآن، في ردهات الظلام، ويتطلع كغيره من الشعوب ليعيش في أمنٍ وسلام ؟!! ، هو في معسكرات نزوح ولجوء داخل أكواخ من “عويدات” و “بروش” متهالكة متطايرة بائسة يائسة، لا تقي حرارة الحر الشديد والبرد القارس والمطر القوى والرعد المدوّي على مدى الدهور والسنين والأيام !
تنعدم فيها أبسط مقومات الحياة ! .. بل تتوفّر فيها كل مقوّمات الممات والإستشهاد ! .. تهاجر نساؤها مسافة اليوم واليومين بالدواب طلباً للماء ! ، وتشعل نار طعامها بفَرْك عودين بعد تعب ومجهود شديد كسكّان العصور الأولى ! … وهنّ على ذلك الحال.. ويهجم عليهنّ من يطفئ نار الطعام ! .. ويشعل نار الحرق والقتل والدمار ؟!! “
وقلتُ :” نحن مع من يحكم السودان من ( دارفور) ، فقد جرّبنا حكم أولى القُربَى وعدَلوا” حالهم بالتعالي والسكن في أعلى الأبراج، ليس في” كافوري ” وحدها ! .. إنما في دبي والقاهرة وأنقرة واسطنبول… ومازال حال معظم أهل الشمال مائل رغم وفرة أرضه ونيله وزرعه وذهبه وخيراته ” .
وكتبتُ وقلتُ :” نريد الحاكم القادم أن يحفر الآبار لأهل دارفور وأن ينشئ لهم السدود ، فمشكلة دارفور هي ” ماء وكلأ ” ، ليتعايش” المزارع مع الراعي” ، فمياه السيول والأودية والخيران التي تجري سنوياً هناك وتضيع هدراً ، يمكن أن تنشئ نيلاً آخر ، أو أكبر بحيرة في العالم !.. وكل الدراسات والتصاميم والمسوحات التي أُجريت تؤكد بإنتاجية أكبر مشاريع لحصاد المياه هناك لحل مشكلة الإنسان والحيوان مدى الحياة . إن تم ذلك فسيعيش الجميع في أمان ، وتستقر أكبر بقعة ملتهبة أمنياً كانت محط قلق وأنظار العالم . وبسبب ذلك الإستقرار يستفاد من خيرات ذلك الإقليم لكل السودان “.
وختمت مقالي وقلتُ :” عموماً شخصي الضعيف من أبناء الشمال ، ويرى إعطاء الفرص لأبناء دارفور ليحكموا السودان . وخاصّةً لشخصية مؤهّلة أكاديمياً مثل د. جبريل إبراهيم . ونحسب أنه قد بدأ في الطريق الصحيح ، هذا إنْ لم يضع أصحاب المصالح الخاصّة المتاريس والعراقيل أمامه “.
هذا ما كتبتُه العام الماضي ، وموجود في صفحتي ، لمن أراد الإطلاع.. وكأوّل كاتب قد دافع عن تصريحات د. جبريل في ذلك الوقت.
ويمر العام والنصف ، وللأسف الشديد لم يمر بسلام ! ، ولا بأدنى بشريات السلام ، حين تتناقل ذات الوسائط والأسافير والنشطاء خطاباً ممهوراً بتوقيع مدير مكتب وزير المالية د. جبريل إبراهيم ، يبيِّن تجاوزات الوزير “المالية” ، حين يوجه بإعفاء أبن أخيه من رسوم جمارك عربة مبلغها 562000 جنيه، ووثيقة أخرى مُسرّبة تحكي عن إعفاء آلاف عربات أصحاب ” العملية السلمية” ، علماً بأن السيد الوزير قد أصدر قراراً بإيقاف جميع الإستثناءت من الإعفاء الجمركي !
ولم تتوقف تلك الوسائط عن نشر تلك التجاوزات ، بل زادت بأن السيد الوزير ردّ على ذلك بأنّ ما قام به ( ليست ببدعة)! ، الأمر الذي زاد من تعقيد المشكلة، واستفذاذ المواطن السوداني الذي يكابد لقمة العيش ، وهياج معظم منابر العاصمة أمس الجمعة ، منتقدةً هذا التصرُّف الذي فتح باباً واسعاً للفساد الإداري والمالي والمحسوبية
هذا الحدث الذي ، إن صحّ ، فهو يرسِّخ فعلاً للمحسوبية والفساد الإداري والمالي، تلك السلوكيّات والسلبيّات التي خرجت من أجلها جماهير الشعب في ديسمبر لتكبح جماحها، وتعيد الحقوق لذلك الشعب المغلوب المظلوم المهضوم .
ولأهمية الأمر.. وحساسيّته ، وهو أمر قد شكّل رأياً عاماً كبيرا.. وهو أمر يتعلّق بخزينة دولة ، دولة منهارة إقتصادياً وسياسياً وأمنياً ؛ المطلوب من وزير المالية، الذي وضع نفسه مواضع الإتهام...... و"من وضع نفسه مواضع الإتهام لا يلومنّ من أساء به الظن" ، فهو نَعم مسئول ، ومِن أهم وزارة ، وأتت به ( إتفاقية) .. لكن لا يعني ذلك أن نعطِّل لها القانون الذي أولى مبادئه ( العدالة) التي يرفعها السيد جبريل وحركته شعاراً لهما، واتخذتها الثورة إحدى أضلعها الثلاث... وإلّا نكون قد بدّلنا تجاوزات سابقة بسلبيات جديدة !!
والآن .. بعد أن تفشّي الخبر ، وعمّ القُري والحضر ، مطلوب من السيد جبريل ، الإستقالة عن تكليف منصب وزير المالية. وبالعدم مطلوب من المجلس الإنتقالي إيقاف وزير المالية مؤقتاً عن ما تم تكليفه به، وتكليف خلفه ، ليباشر مهام المالية، وتشكيل مجلس تحقيق عاجل ، مع مراجعة مالية لكل الفترة التي قضاها وزير المالية مسئولاً عن المالية، عملاً بالقاعدة القانونية الذهبية
(المتهم بريئ حتى تثبت إدانته) .
ورسالة عاجلة لكل السياسيين، بأن يجعلوا الوطن الضائع نُصُب أعينهم ، وأن يبادروا ويسارعوا اليوم وجمع كل المبادرات من “داخل البيت السوداني” بتشكيل هياكل السلطة الإنتقالية، من مجلس الوزراء، وحتى آخر مفوضية. وأول قرار يتخذه مجلس الوزراء الجديد هو مراجعة كل مؤسسات الدولة إبّان هذه الفترة “الهشّة” العديمة الرقابة ، وسيجدون العجب !!.
وهذا ما ظللنا ننادي به أن يكون مجلس الوزراء القادم مستقل محايد، متشبِّع بسياج الوطنية المخلصة السمحة الباذلة . ومن أراد حكم السودان برغبة وطواعية فلينتظر الإنتخابات.
والله من وراء القصد
وهو يهدي السبيل