معلوم أنّ الإغاثة هي الإعانة والنُّصرة عند الشِّدّة ، من قِبل منظمات طوعية أو خيرين .
ضجّت وسائط التواصل والترابط الإجتماعي أمس ، بأنّ مواطني إحدى قرى ولاية الجزيرة المنكوبة قد رفضوا إستلام مساعدات إنسانية سعودية ، بِحجّة أنّ صاحب القافلة ، رجل الأعمال السعودي ، قام باحضار قافلة مساعدات إنسانية تتمثل في مواد غذائية عددها ألف سلّة، واشترط أن يتم تصوير كل مواطن يستلم سلّته ، مما اعتبره المواطنون نوع من الذِّلّة والإهانة !.
وحتى لا نظلم أهل هذه القرية ، والمانحين معاً ، بالتأكيد لا نستطيع أن نعقِّب على هذه الواقعة بالذات ، لأننا لا نعرف ملابسات وأسباب الرفض الحقيقية .
لكن دلّت تجاربنا من خلال عملنا السابق في الشرطة، وفي مثل المواقف التي تسببها الفيضانات والسيول وما يطرأ عنها من خلافات تنشب أثناء عمليات توزيع مواد الإغاثة ، مثل حالة يُصِر وكيل المنظمة المانحة بأن يقوم بالتوزيع بنفسه للمتضررين مباشرةً ، هو وعماله
وفي الجانب الآخر تُصِر اللجان المحلية للمنطقة المنكوبة بأنها الأحق بذلك ، ويجب أن تستلم الإغاثة وتقوم بتوزيعها على مواطنيها، باعتبارها الإداري بهم وبأحوالهم . وعادةً يأتي إصرار وكلاء المانحين بتسليم الإغاثة بأنفسهم والتوثيق للحظة التسليم ، لسببين :
السبب الأول : هو أنّ رئاسة المنظمة المانحة تطلب من أولئك الوكلاء ما يثبت أنّ الإغاثة وصلت لمستحقيها واستلموها فعلياً ، ولكي يبرئ هؤلاء الوكلاء ذممهم ، فهم يقومون بتصوير كل مواطن استلم حصته ، ويرسلونها لرئاسة المنظمة إخلاء طرفهم، وعادة تكون عملية التصوير هي إبراز اليدين والمادة المستلمة، دون إظهار الوجه.
السبب الثاني : هو أنّ شكاوي عدّة من بعض المواطنين ، في حالة التوزيع من قبل بعض اللجان المحلية ، بأنّ الإغاثة تصلهم ناقصة، وعند مراجعة أعضاء تلك اللجان يبرّرون ذلك بأنّ بعض مواد الإغاثة في نظرهم ، لا يحتاجها المواطن ، مثل اللبن المجفف ، والسمن ، والزبيب ، وغيرها ، فهم يبيعونها في الأسواق لمواجهة المنصرفات الغير منظورة من تكاليف ترحيل مواد الإغاثة داخل القرى والأحياء ، والصرف على ضيافة الوفود المتفقِّدة لأحوال المنطقة المنكوبة ، وشراء بعض المستلزمات الغير مدرجة في الإغاثة للمنكوبين، وأحياناً تتم عملية تبديل حسب ما يحتاجه المواطن السوداني من غذاء ، مثل تبديل الأرز بالذرة مثلا ، وهذا ما يرفضه المانحون، والمنكوبون ،وفي رأيهم أن تتم عملية التسليم كاملة للمواطن ، وللمواطن الحق أن يُقوم بالتبديل أو البيع بنفسه حسب حوجته ، لأن هذه الثغرة فتحت مجالاً كبيراً لتسرُّب مواد الإغاثة وبيعها في الأسواق ، وبكميات كبيرة ، وكم دوّنت مضابط الشرطة من مثل هذه المخالفات. وفي كثير من المواقف تُحرِّض بعض اللجان المحلية المواطنين بعدم استلام الإغاثة إلّا عن طريقهم ، ويدب الخلاف بين مؤيد ومعارض لهذا الرأي ، لدرجة توقُّف عملية التوزيع ، ويشتكي المواطنون ، وأحياناً كثيرة يعود المانحون بعرباتهم المحمّلة بالمواد، وبدون أي توزيع نتيجة لتلك الخلافات.
كل هذا القصور في توزيع الإغاثة يأتي لعدم وجود إحصائيات دقيقة للمتضررين فعلياً، فيجب ومنذ لحظة وقوع الكارثة على قوات الإدارة العامة للدفاع المدني أن تقوم بحصر أسماء المتضررين، في كشوفة معتمدة، ومنح كل متضرر شهادة موقّعة ومختومة تشمل كل الخسائر ، في الأرواح والممتلكات، وعلى المتضرر إبرازها للجهات الرسمية والطوعية في حالات التعويض وتقديم الإغاثة، لأنّ أي تأخير في عمليات الحصر يُدخِل أسماء لا علاقة لها بالمنكوبين ، الأمر الذي يفتح باباً واسعاً للفساد الإداري والمالي ، وورود إحصائية خيالية ضخمة تعجز السلطات والمنظمات أن تلبي حاجتها، ويكون التوزيع والتعويض خصماً على المتضرر الفعلي . ولو تمّت عملية الحصر والتسجيل في وقتها، لوصلت الإغاثة لكل متضرر في موقعه أو داخل خيمته ، من واقع كشوفات الدفاع المدني الموقّعة والمختومة ، والتي تكون بمثابة مستند صرف للجهة المانحة.
وحتى لا نظلم هذه الإدارة ، فقد شهدنا لها عملاً مميزاً في مثل هذه المواقف، وكم دخل منسوبوها تلك المواقع في ظروف بالغة التعقيد وحاصروا وسجلوا، وسهّلوا المهمّة.
وحتى لا يتأذّى المنكوبون والمانحون من عمليّات توزيع الإغاثة ، على الجهات الرسمية مثل وزارة الداخلية، ممثلة في الدفاع المدني، ووزارة العون الإنساني ممثلة في مفوضية العمل الإنساني، على هاتين الوزارتين، أن تشكِّلا حضوراً دائماً في كل المواقع المنكوبة لتسهيل عمليات التوزيع ، وتجنيب الضيوف المانحين حرج عملية التسليم والتسلم. وتجنيب المواطن الضجر والشكوى ، وهو معذور في ذلك.
والتحية لكل مانح وفاعل خير، ولكافة المنكوبين نسأله تعالى أن يفرج كربهم ويُجِرهم في مصيبتهم.
والله المعين