سقطت مملكة علوة بعد تخريب عاصمتها سوبا، وهى آخر مملكة مسيحية في السودان فى العام 1505. قامت دولة الفونج ، ولمّا كان نهجها إسلامي ، ولتثبيت قواعد حكمها، وجّهت دعوات لزعماء دينيين من مصر والحجاز وغيرها ، لزيارة السودان ، لتعليم الناس أمور دينهم من فقه وتوحيد وشريعة ، وقد أعطى ذلك الفرصة لرجال الدين والصوفية لدخول السودان . وقد ساعدت الأدوار الاجتماعية والسياسية والدينية التى مارسها رجال الطرق الصوفية فى السودان دوراً كبيراً فى أن يأخذ التصوف مكانة مُقدّرة فى نفوس غالبية الشعب السوداني .
والناس على ذاك الحال، وفي أواخر ثلاثينيات القرن الماضي ونتيجة للتعليم الحديث في السودان ، ظهر خريجو الجامعات ، وأنشأوا مؤتمر الخريجين في عام 1938 كأول تنظيم شبابي سياسي مناهض للإستعمار الإنجليزي المصري ، وعلى أنقاض دولة الفونج التي كانت راعية للطرق الصوفية، كانت قد برزت الطائفة الختمية وطائفة المهدي “الأنصار”، واللتان أحسّتا بالخطر الذي سيهدِّد كيانهما من قبل هذا التنظيم السياسي الشبابي ، ذو الخلفية العلمية ، “مؤتمر الخريجين” ! ، فكان لابد من شق صف الخريجين ، حين استقطبت طائفة الختمية طلابها من الخريجين لإنشاء الحزب الإتحادي الديمقراطي عام 1944 بالتعاون مع الطلاب اليساريين ، وكذلك استقطب الأنصار أبناءهم الخريجين ليؤسسوا حزب الأمة عام 1945، وبالتالي تلاشي كيان سياسي شبابي مستنير .
ومن ذلك التاريخ دخلت الطرق الصوفية السياسة من أوسع أبوابها ، ورغم أنها وحّدت الشعب السوداني ضد الإستعمار عبر كياني “الختمية” و”الانصار”، وكان أوّل عمل سياسي إيجابي منظم ضد المستعمر ، لكن في ذات الوقت كانت سلبياته في تحكُّم زعماء الطائفتين في شئون الحزب ، وبالتالي إنتقال رئاسة الحزب بالوراثة لا بالديمقراطية، وكذلك تبعية الإنضمام للحزب بالولاء للطريقة ، لا لمبادئ الحزب وأهدافه،
لذلك كان إلتفاف الشعب السوداني حول صناديق الإقتراع بالإعتقاد في مؤسس الطريقة، لا نهج وفكر الحزب . وفي ذلك الجو السياسي الذي فتح مجالاً للديمقراطية في السودان أيّاً كانت تبعيتها، ظهرت في الساحة السياسية أحزاب أخرى
لكن معظم مناهجها من خارج حدود الوطن ، فكان الحزب الشيوعي السوداني في العام 1946 على خلفية الحزب الشيوعي السوفيتي . وكان حزب البعث العربي الاشتراكي على نهج حزب البعث في العراق . وكان مبادئ حزب الأخوان المسلمين في أوائل الخمسينيات ، من إخوان مصر ، والذي تحوّل لجبهة الميثاق الإسلامي، ثم الجبهة الإسلامية القومية، ثم المؤتمر الوطني . وقام مؤتمر البجا على خلفية إقليمية وجهويّة في العام 1957. وتأسّس حزب الإتحاد الوطني الأفريقي السوداني ، والذي أسّسه أبناء جنوب السودان وكان يُعرف بحزب “سانو” ، اختصاراً ل “sanu” عام 1963، تشكّل على يد ساتورنينو أوهير في أوغندا، وبالتالي من خلفية من خارج الحدود وخلفية إقليمية . وهناك أحزاب أخرى ظهرت في الساحة السودانية .
كانت معظم هذه الأحزاب غائبة عن الساحة السودانية ردحاً من الزمان للإنقسامات الحّادة داخلها ، إذ أنّ بروز الحكومات العسكرية لم يتح لها فرصة مجرّد توحُّدها ، بل ساعد أحياناً في تقسيمها ، دعك من فرص تولي إدارة البلاد ، وإن كان سبب اعتلاء العسكريين للحكم في معظم الأحوال ، كان سببه هو تضامن بعض تلك الأحزاب مع الحكومات العسكرية المتعاقبة
وفي تاريخها لم تتوحّد الأحزاب السودانية لتتجه نحو صناديق الإنتخابات لتدير حكم السودان، إلا في فترتين محدودتين جداً . وكمثال الآن مضى على آخر حكم عسكري أكثر من أربعة أعوام، ولم تستطع تلك الأحزاب ترتيب بيتها والإتفاق على فترة إنتقالية تقود البلاد لإنتخابات تأتي بحكومة مدنية، بل فشل معظمها في إقامة جمعية عمومية أو تأسيسية لاختيار قيادات الحزب من القواعد ! .”وفاقد الشيئ لا يعطيه”! وتشهد الساحة السياسية صراعات عنيفة ، أشتد أوارها منذ قيام ثورة ديسمبر الأخيرة .
وما أشبه الليلة بالبارحة، ولمّا كانت خلفية أكبر حزبين سودانيين، بهما نال السودان استقلاله، وهي الطرق الصوفية، فقد بدأ يلوح في الأفق ظهور حراك سياسي، مسنود من الطرق الصوفية حيث الشعبية والتفاف الناس حول المريدين ، لا حول قيادة الأحزاب
فكانت مبادرة نداء أهل السودان ، أيّاً من كان خلفها ، المهم أنها خلقت شعبية مؤيدة لها. وفتحت شهيّة لبعض الطرق الصوفية لولوج السياسة ، ولم يجف مداد توصيات مبادرة الشيخ الطيب الجد ، حتى لاحت في الأفق أمس مبادرة الشيخ الطيب الشيخ برير ، مرشد الطريقة السمانية تحت مسمّى (المسيد الفكر والمسئولية الوطنية)، في الوقت الذي ظهرت فيه الطريقة القادرية كمعارضة قوية لكل من ولج السياسية من الطرق الصوفية ، أولها انتقادها لمبادرة مسيد أم ضواً بأن.
وبهذا ، يكون قد برز في الصراع السياسي طرف آخر ، هو الطرق الصوفية، الأمر الذي يِعقِّد من الأزمة السياسة ويطيل من أمدها ، في ظل خلافات أحزاب يمينية ويسارية، وحتى التي سمّت نفسها يمينية هي منشقة لعدة مسميات ، وذات الحال ينطبق على اليسارية ، مع وجود لجان المقاومة التي تهيمن على زمام التظاهرات، فهي لا مع هذا ولا مع ذاك ، بل حتى الآن لم يظهر لها كيان مؤسس ينظم صفوفها ، مع وجود كيان لأنصار السنة دخل شق منه السياسة ، لكن دون تكوين تسجيل أو تنظيم سياسي ، وفي أغلب الأحيان يعارض من منطلق مبادئه الدينية. أمّا البعثة الأممية، فمازالت في خط “المديدة حرقتني” ! وتزيدها ناراً وأوارا !.
كل هذا الإنقسام والتشظي ، في ظروف إقتصادية أمنية صعبة وقاسية لا تحتمل التأخير ، مع إطلالة قيادة الجيش بين الحين والأخرى بأنها زاهدة في الحكم ، وأنها مازالت في انتظار اتفاق الأحزاب !!!.. وفي انتظارها… ينتظر الشعب السوداني وينتظر … ومازال “واقف” منتظر !!.. وهو أوّل من يتحمّل نتيجة انتظاره ويكتوي بناره !!
والله المستعان