حينما أردت أن أكتب عن 24 القرشي الزمان والشخصيات والأمكنة تعثرت أقدامي وانعقد لساني وطاشت سهامي، وذلك كله لهيبة مكانة القرشي في قلبي ؛وقلب كل من عاش فيها، غير أنّي سأقف على جزء صغير بحجم الذرة، من تاريخها الممتد من الستينيات في القرن الماضي وإلى اليوم.
وقصة القرشي بدأت حينما أراد الفريق عبود رحمه الله بناء مدينة تخلد اسمه على غرار ستالينغراد الروسية والتي حملت اسم الزعيم السوفيتي “جوزيف ستالين”، لهذا دمرها هتلر في الحرب العالمية الثانية نكاية به. فقد تم تصميمها لتكون مدينة نموذجية في قلب امتداد مشروع المناقل وعاصمة لغرب الجزيرة.
حيث رأينا ضخامة المستشفى والورش الهندسية وبناء المدارس على طراز حديث مقارنة بذاك الزمان، وحتى المباني لم تُبنَ بالطريقة التقليدية، بل تم بناؤها من حجر جبل الماطوري حتى اطلق عليها “المدينة الحجرية”،وقد تم انشاء إدارة هندسة مدنية لمتابعة صيانة المنازل التي كانت تجدد كل عامين، لهذا لن تدخل بيتاً وإلا ينتابك إحساس أن البيت كأنه تم بناؤه بالأمس.
كل هذه المرافق الخدمية خلقت من إنسان القرشي إنساناً حضارياً من الدرجة الأولى،حيث لاتعرف المدينة قطع الكهربا أو المياه، وكنت وأنا في صباي اعتقد أنّ السودان كله يتمتع بالكهرباء المجانية، حيث أنشأ عبود محطات طاقة حرارية خاصة بالمدينة. كل هذه المواصفات المعمارية خلقت من القرشي بيئة جاذبة لأفضل العمال المهرة والموظفين، وحققت لهم الاستقرار النفسي والاجتماعي والتعليمي.
وحينما يسكن أيّ إنسان القرشي يتقين أنّها المدينة الفاضلة التي حكى عنها أفلاطون، ولا يخالطه أدنى شك في عدم مغادرتها والاستقرار فيها ” من المهد الى اللحد”، لهذا لا تكاد تجد نسبة الذي رحلوا عنها تتجاوز “0.05”، وهي نسبة يسميها أهل الإحصاء”Non Significant” أي نسبة ضعيفة لا تكاد ترى بالعين المجردة، وهذا دليل حب كل من سكنها.
كانت القرشي تضم جميع قبائل السودان من الاتجاهات الأربع ، ومع ذلك تجدهم يحبون بعضهم بعضاً حباً أشبه بحب المهاجرين والانصار، ونادراً ما نسمع عن خلافات بين الجيران، فحتى المسيحي كان يتعامل مع المسلمين بعفوية وتسامح كبير، وحينما يختصم الأطفال يستطيع أيّ رجل في الشارع أن يتمثل دور الأب ويوجه ويعاقب الجميع دون أدنى همس جهري من عائلته، فكل رجل هو والد الجميع وكل أم هي والدة الجميع، لهذا عاش مجتمع القرشي في سلامي اجتماعي، وحتى الأبواب كانت تترك مشرعة لعدم وجود اللصوص، فهذا مجتمع لن تجد له مثيل، بمقاييس علم الاجتماع يُمكن اطلاق عليه المجتمع المثالي.
النظام الطبقي لم يكن حاضراً في مجتمع القرشي، ويُعزى ذلك الى تشابه السكان في كل شيء بدءاً من الوظائف وحتى مساحات البيوت وعدد الغرف في كل بيت. ومن الذكريات الجميلة حينما يأتي ضيف لأيّ أسرة تجد أهل الحي خاصة النساء يتزاحمن بزيارته ومشاركته بوجبة الغداء، وهذه الظاهرة التكافلية عززت من مبدأ التكافل بين الجميع، فالضيف يكرمه جميع أهل الحي.
سأتوقف في بعض المحطات القرشية منها التعليم،فقد حظيت بمدارس مازالت شامخ بناؤها حتى كتابة هذا المقال، وتم اختيار أفضل بل أميز الأساتذة للتدريس فيها،حيث المدرسة الابتدائية الشمالية والتي كانت قلعة علمية اشبه بكامبردج”cambridge” لهيبتها؛ فهيبة المكان من هيبة محتواه ومخرجاته،وهنا في هذه المدرسة التقينا بأساتذة التزموا الصرامة بمعناها القاموسي في العملية التعليمية.
فكنا ونحن صغارا ًنترك اللعب واللهو إذا لمحنا أحد أساتذتنا وهو يمرُّ من بعيد؛ أقول بعيد وليس من قريب، ونهابه أكثر من أباءنا، وإن كان والدي موسى له هيبة يعرفها الجميع وكثير منا نال “علقات بالسوط أو بالصوت” نتيجة لأخطاء نحسبها اليوم ليست ذات بال، ولا نعاقب عليها أبناءنا، فقد اختلفت مفاهيم التربية اليوم.
كنّا في هذه المدرسة الابتدائية ذات الصرامة التعليمة أشبه بصرامة مستر براون بمدرسة حنتوب آنذاك، فكان الأستاذ محمد توم، علي محمد نور ، عبدالماجد أحمد، محمد نور بانقا ، السفاح، بدرالدين الجعلي ،سعيد محمد نور، عصام الطيب، عثمان خواجه، وغيرهم ممن لم تسعفني الذاكرة لذكرهم، فلهم منا الدعاء بالرحمة للأموات والشكر والعرفان للأحياء، ولهم منا جزيل الشكر والعرفان لما قدموه من تعليم وتوجيه في ظل مشغوليات الإباء بمشروع الجزيرة.
ومازلت أحسُّ بهيبة المكان حينما أدخل تلك المدرسة فكم من الأسواط العقابية تحملتها أجسادنا ليس من باب التشفي وإنما من زاوية العقاب الأبوي الذي أخرجنا اليوم رجالاً نعتزُّ بأساتذتنا، فجعلت منّا رجالاً نتحملُ الشدائد والصعاب حتى في بلاد الغربة، لأن التوجيهات المدرسية في الطفولة هي التي تكون شخصية الانسان حينما يكبر وهذا ما أفتخر به اليوم حتى بين زملائي من الدول الأخرى.
ومن الذكريات التي لم أنسها حينما عاقبني أستاذ عبدالماجد بثلاثية من سياط المشتل حينما ذهبت لتصحيح موضوع “الإنشاء” بالصف الرابع ، فعندما مسك بالكراس انتهرني قائلا” عبدالحليم قرأ بكتبوها كده” وكنت كتبت الهمزة على السطر هكذا”قراء”.وكم من الأخطاء أكبر من هذه نلاحظها في خريجين وليس طلاب رابع ابتدائي، لهذا العقاب المناسب مفيد حينما يكون تربوياً.
ما النشاط الثقافي بالمدرسة فقد أبرز أصواتاً عذبةً ومن أشهرها “فتح الرحمن ميسرة” الذي صدح بصوته في مسرح المدرسة، وقد ورث صوته لابن أخته ساره محمد عباس المنشد المشهور. ولاننسى قراءة كتب الألغاز التي كنا نقرأها بالتناوب بعد أن يشتريها بدوي غزالي أو غيره من أولاد الموظفين، الكتاب الواحد لديه قائمة انتظار تصل لأكثر من عشر طلاب، أرأيتم كيف كانت تُصنع الهمم.
وحينما انتقلنا للمدرسة المتوسطة زاد العبء علينا فزادت الصرامة ،وأصبحت المدرسة أشبه بسكن الطلاب صباح مساء، دراسة بالنهار والذهاب للمذاكرة بالليل، ورغم ذلك كانت المناشط الرياضية والأدبية حاضرة بقوة في المدرسة المتوسطة وهي التي شكلت جزءاً كبيراً من شخصيتي وحبي للإعلام حيث برزتُ في الجمعيات الأدبية بالمتوسطة وشاركت كمخرجٍ لجريدة العلوم التي كان يشرف عليها الأستاذ مصطفى.
أما صرامة المدرسة تبدأ من أول يوم في السنة الدراسية حيث يتم توزيع الطلاب وأماكنهم في الطابور حسب الطول، وإياك ثم إياك أن تقف في الطابور دون الالتزام بهذا القانون. علمتنا المتوسطة الالتزام بدقة المواعيد “مواعيد خواجات كما يحلو للبعض هذه التسمية فكان الأستاذ عبدالغني وادارته المتميزة في طابور الصباح وحصص الإنكليزي، أما الاملاء الإنكليزية”Spelling”،واستاذ الكاب الذي أحب اللغة الإنكليزية كأن أمّه أمريكية، فكان الاختبار من عشرة كلمات أسبوعية دون تحديد لجزئية معينة من الكتاب، لهذا كنت أنال عقابي الأسبوعي من الجلد، وبمعيتي صديقي محمد عوض الله الذي كان يشبهني لدرجة يُقال أننا توأم.
أما ما يميز القرشي من النّاحية الاجتماعية ظاهرة الأندية الرياضية التي شكلت وجدان مجتمع القرشي، فقد تم تأسيس ناديٍ في كل حي من أحياء المدينة، ومن ثمّ برزت الأندية الرياضية ثم اتحاد كرة القدم، وأتذكر أن المباريات الرياضية تعتبر موسماً اجتماعياً ورياضياً بالقرشي،ّ فكل نادي يشجع فريقه، وكنت أتوقع لو تم بيع تلك الأندية إلى شركات خاصة لتنافس الفرق الرياضية الأهلي والهلال والمريخ.
من الشخصيات العظيمة التي تُكتب في تأريخ القرشي والذين تتفاوت وظائفهم ؛فمنهم الأستاذ عثمان سليمان الذي يمثل وزير التعليم والذي كنّا ندرس كتابه الأمالي بالابتدائي، والمهندس صديق النور من أذكى مهندسي السودان، وعبدالقادر الجفري الذي كان رئيس حكومة القرشي، وقد أضاف للقرشي المباني التي تم بناؤها بالطوب الأحمر بالقرب من نادي الموظفين، والمهندس إسماعيل غزالي الذي كان بمثابة وزير المياه والكهرباء بحكومة القرشي، والشيخ ود المهدي إمام المسجد الكبير، والاستاذة نفيسه بحيري ،فلهم الرحمة جميعاً. كم أنتِ عظيمة يا القرشي برجالك ونسائك وعيالك.
هذه ومضات من الذاكرة عن مدينة القرشي وأحسب من شدة تعلقي والآخرين بها أن الرقم “24” مرتبط دوماً بحساباتي الرقمية من إيميلات وغيرها، حتى إيميلي الجامعي يحمل ذات الرقم. ولن تجد أي انسان عاش بالقرشي إلا ويقول لك حينما تسأله من أهله فيذكر لك تاريخ حياته مع أسرة القرشي. وبالرغم من تفرقنا في الأرض الواسعة إلا أننا مازلنا نتمنى للقرشي، حتى هذا العمود الصحفي أطلقت عليه “قرشيات” تيمناً بالقرشي، فهي أحب البلاد إلى نفسي، ويوماً سنعود إليك يا قرشي.