جملة واحدة يرددها هذه الأيام كل من تسأله عن السودان :(البلد انتهت .. ما أظن تتصلّح تاني)!!
سمعتها عشرات المرات من عامة السودانيين غير المنتمين لحزب أو كيان يعارض أو يوالي حكومة الفترة الانتقالية العصيبة.
حجم الدمار الاقتصادي خلال عامين فقط من عمر الانتقال ، أحدث آثاراً وندوباً اجتماعية ظاهرة للعيان ، وبالضرورة اهتزت منظومة الأمن اهتزازات عنيفة وتفشت الجريمة المسلحة في قلب العاصمة الخرطوم ، وتورَّطَ نظاميون مسؤولون عن حفظ الأمن في عمليات نهب لمواطنين ، كواحدة من أهم مضاعفات الجراحة الاقتصادية القاسية التي فرضتها القوى الغربية (النيو ليبرالية) على حكومة ” عبدالله حمدوك” عبر آليات صندوق النقد الدولي ، كخيار وحيد لإعفاء بعض الديون المتراكمة على حكومات السودان السابقة ، والسماح بتمرير اعتمادات قروض جديدة !!
أجبر حُكام صندوق النقد والبنك الدولي (أمريكا ، بريطانيا وفرنسا) رئيس الحكومة الانتقالية على السير في هذا الطريق الوعر الذي يقود إلى هاوية الانفلات الأمني الشامل و تصدُع الدولة ، وهم يرون هذه النتيجة الحتمية رأي العين، بينما لا يرى “حمدوك” شيئاً غير التسليم بما يرى (الخواجات) ، فعيونهم تصيب و رؤاهم لا تخيب !!
و لو تدبر “حمدوك” وجوقته من شلة (نادي المهجر) لأبصر للغرب خيباتٍ وخيبات .. من الصومال .. إلى العراق .. و سوريا ثم ليبيا ، وانتهاءً بخيبته المتلفزة المسموعة والمرئية في أفغانستان ، وخسارته نحو (تريليون دولار) قبل أن تدق (طالبان) أبواب “كابل” و تطرد حكومة الأمريكان من بلاد الأفغان !!
تعمل دوائر الغرب الاستعمارية على تفكيك الدولة السودانية إلى دويلات بدفع حكومة انتقالية (غير منتخبة) إلى اتخاذ قرارات مصيرية بالغة الخطورة وعميقة التأثير في بنية المجتمع السوداني الاقتصادية والاجتماعية والسياسية ، ما يهدد كيان الدولة المستقرة الآمنة المتماسكة ، القائمة على جملة قيم ومبادئ متوارثة ترسخت على مرّ العصور منذ أن عرفت بلادنا نُظم الدولة الحديثة.
صندوق النقد الدولي يعلم الآثار الكارثية لتنفيذ سياسات التحرير الاقتصادي (دفعة واحدة) خلال فترة وجيزة.
تقول دراسة أعدها فريق عمل تابع لصندوق النقد الدولي في دول أمريكا الوسطى :(وجدنا أن التحسن المستمر في معايير المعيشة يعد مسألة رئيسية للحد من معدلات الجريمة بشكل مستمر). تضيف الدراسة :(وبطبيعة الحال ، يكمن الجانب السلبي في علاقة الاقتصاد بالأمن، أن عدم الاستقرار الاقتصادي وتباطؤ النمو يضران بالموقف الأمني).
و تمضي الدراسة ( في السلفادور أدت زيادة 1% في النمو الاقتصادي إلى انخفاض الجريمة بنحو 0,66% وكذلك الوضع في هندوراس وغواتيمالا).
تقول الدراسة أيضاً ( مع إتاحة المزيد من الوظائف المشروعة، فإن المجرمين الحاليين يكونون أقل ميلاً لارتكاب أنشطة غير قانونية ذات أجور مرتفعة مثل الابتزاز، ويفضلون بدلاً منها الاستقرار الوظيفي و الأجور الثابتة).
إذن .. تزايد النشاط الإجرامي في السودان خلال العامين الأخيرين سببه تردي الأوضاع المعيشية وانهيار نظام الخدمة العامة و الخاصة مقابل راتب شهري ، إذ لم يعد الراتب -مهما علا – متناسباً مع الزيادة اليومية المتسارعة في معدلات التضخم ، فتحولت المدينة إلى غابة، وانطلقت الوحوش تفترس ضحاياها بلا رحمة ولا خوف ، فالجائع ليس عنده ما يخشى عليه.
خلاصة المشهد الآن في السودان بعد عامي النكبة و الثورة المُتوَهَمة :(حالة هروب جماعي للشعب الثائر .. من براثن حكومة ثورته .. باتجاه مصر وتركيا) !!
الآلاف يبيعون اليوم بيوتهم التي بنوها في الخرطوم خلال (الثلاثين عاماً الماضية) ليشتروا شققاً آمنة في القاهرة واسطنبول ، حيث تسمح حكومتا البلدين بحرية التملك للسودانيين، بل و تمنحك تركيا الجنسية خلال ثلاثة أشهر إذا تجاوزت قيمة العقار (250) ألف دولار.
فهل من فشل يفوق هذا الفشل وهل من انهيار يضاهي هذا الانهيار بين جميع دول إقليمنا الأفريقي؟!
إن الدولة الأكثر تضرراً من تداعي الأوضاع السياسية والاقتصادية والأمنية في السودان هي الجارة الشمالية “مصر” ، فرغم ما تستقبله مصارفها من ايداعات قادمة من الخرطوم بملايين الدولارات الهاربة من (همبتة) لجنة تفكيك نظام الثلاثين من يونيو ، مع الخوف والقلق من حالة انسداد الأفق التي تلف الدولة، بالتزامن مع دعوات (انفصالية) رعناء يطلقها ناشطون مراهقون و ساسة أغبياء من الشمال والشرق ودارفور ، لم يكفهم عبرةً و عظةً ما حاق بشمال و جنوب السودان بعد الانفصال، فرغم العائد المحدود على المصارف المصرية ، فإن نزوح مئات الآلاف من الشباب والنساء إلى “مصر” يمثل تحدياً أمنياً جديداً لسلطاتها.
كما أن توالي حالة التداعي السياسي و الاقتصادي يعني سقوط الدولة السودانية وتفككها لدويلات ، ما ينعكس بالتأكيد خطراً داهماً يهدِّد استقرار و وحدة الدولة المصرية.
لقد دعمت “مصر” التغيير الذي جرى في السودان في أبريل 2019م ، لكن دولاً أخرى (عربية) و(غربية) كانت أكثر مشاركةً وانغماساً في آليات ذلك التغيير الذي أفضى إلى واقع شديد البؤس كالح السواد.
غير أن تلك الدول التي سارعت بخفة وعدم تبصر في دعم التغيير ، لا تتأثر (سلباً) بحالة السيولة الأمنية الماثلة الآن في السودان ، لأنها ببساطة دول غير مجاورة لا تربطها حدود ولا تداخل بشري ، جغرافي و تاريخي مع السودان. كانت دولة شقيقة مثل الإمارات تظن أن القادم في السودان بعد الإطاحة بنظام (الإنقاذ) سيكون صديقاً و حليفاً لها، فإذا بالقادم أسوأ، و إذا بالدعوات تتعالى لمواكب تطالب بطرد السفير الإماراتي من الخرطوم ، وهو ما لم يحدث مطلقاً طوال السنوات الثلاثين لحكم النظام السابق المتهم بـ(الاخوانجية) !! (يداك أوكتا وفوك نفخ).
و ما يزيد الحال سوءاً في بلادنا أن حكامها اليوم (عسكريين ومدنيين) ، على عجزهم البائن و المشهود عن إدارة مؤسسات الدولة الخدمية و التنموية، لضعف الهمة الوطنية وانعدام الكفاءة ، تجدهم مختلفين ومتنازعين على سلطة مضطربة و متهاوية ، وكل طرفٍ داخل طرف (عسكري/عسكري – و مدني/مدني) ، يتربص شراً بالآخر ، مسنوداً إلى الخارج لا إلى الداخل ، رغم ما يتظاهرون به من وفاق مفضوح !
في ظل هذا الواقع المكفهر ، يتعيّن على الدولة المصرية المتأثرة بالوضع في السودان ، أن تفصل مشروعها و مصالحها عن المشروعات (الغربية) و(العربية) المتنافسة على دولتنا النازفة، و تتقدم بقوة وعزم للمساهمة في إعادة الأمور إلى نصابها واستقرارها ، بالوقوف بوضوح لا يقبل التواري ولا يأبه للصياح، خلف قوى سودانية وطنية أصيلة ، فاعلة و قادرة على المحافظة على السودان دولةً واحدةً موحدة و قوية.
إن الآليات التقليدية القديمة البطيئة لا تجدي نفعاً في مواجهة هذا التردي المتسارع ، فلا بد من تجاوز هذا النفق المظلم، و قلب هذه الصفحة السوداء من تاريخنا السياسي ، وصولاً لانتخابات عامة رئاسية و برلمانية مبكرة ، من أجل سودان أخضر واعد و ناهض.