لم يكن خبر انقلاب الثلاثاء 21 سبتمبر 2021، مدهشاً و لا مزعجاً لعموم أهل السودان ، بل ربما كان إحباط الانقلاب .. مُحبِطاً للغالبية من غير المنتمين لأحزاب (قحت) ومناصريها !!
فعندما طلب العساكر الذين سدوا كبري النيل الأبيض من جهة أم درمان بدبابتين ، من المواطنين التوجه إلى طرق أخرى، لم يثب الشعب على ظهور الدبابات كما حدث في تركيا في 15 يوليو 2016 ، عندما وجه الرئيس "أردوغان" نداءً للشعب التركي لمواجهة الانقلاب العسكري الذي نفذه مئات الضباط و آلاف الجنود من الجيش على السلطة المُنتخَبة.
الأوضاع الماثلة في السودان اليوم .. ومنذ عامين، تمثل بيئةً مثالية للانقلابات العسكرية ، فكل الانقلابات التي شهدتها بلادنا و نجحت، وتولى قادتها السلطة من لدن انقلاب الفريق "إبراهيم عبود" في 17 نوفمبر 1958، مروراً بانقلاب العقيد "جعفر نميري" في 25 مايو 1969، ثم انتفاضة أبريل واستلام المجلس العسكري للسلطة بقيادة الفريق أول "عبدالرحمن سوار الذهب" في 6 أبريل 1985 ، ثم انقلاب الإنقاذ في 30 يونيو 1989 بقيادة العميد "عمر البشير" ، و أخيراً ثورة ديسمبر 2018 وانقلاب اللجنة الأمنية بقيادة الفريق أول "عوض بن عوف" في 11 أبريل 2019، كل هذه الانقلابات العسكرية ظل موضوع بيانها الأول واحداً ؛ هو تدهور الأوضاع السياسية و الاقتصادية والأمنية في البلاد !!
فهل أوضاع السودان الحالية في كافة المجالات، أفضل من تلك التي كانت دافعاً للانقلابات السابقة بما فيها انقلاب الفريقين "عوض بن عوف" و"صلاح عبدالله قوش" ؟!
بالتأكيد .. الإجابة : لا .. و ألف لا !!
السودان اليوم في أسوأ حال يمر عليه منذ استقلاله المجيد في الفاتح من يناير 1956، فالشعب تتهدده المجاعة في جميع الولايات، بما فيها العاصمة الخرطوم، حيث بلغ سعر قطعة الخبز التجاري "ثلاثين جنيه"، وبلغ سعر طلب الفول"خمسمائة جنيه" ، فكيف هي المجاعة إن لم تكن ما يحدث الآن في السودان؟!
وأصدرت منظمة الزراعة والأغذية العالمية تقريراً هذا العام، وضع السودان في مقدمة الدول التي تعاني من نقصٍ حاد في الغذاء !!
أما المشهد السياسي ، فلا عنوان فيه غير الشقاق والصراع و سيادة ثقافة الكراهية وعدالة الانتقام ، وارتفعت أصوات المطالبة بتقرير المصير وانفصال (شمال و شرق السودان) لأول مرة في تاريخنا السياسي الحديث ، بعد أن كان تقرير المصير مطلباً خافتاً وخجولاً يهمس به قادة الحركة الشعبية جناح "عبدالعزيز الحلو" في كواليس المفاوضات كمزايدة لنيل المزيد من الحقوق على حساب الأقاليم الأخرى !!
أما الحالة الأمنية، فحدث ولا حرج، فشوارع وسط الخرطوم وعلى بعد أمتار من القصر الجمهوري ومجلس الوزراء ووزارة الداخلية ، صارت مسرحاً لجرائم النهب المسلح بالمسدسات والسواطير، وهو ما لم يعرفه سكان الخرطوم و زوارها منذ عهد الإنجليز مطلع القرن الماضي، قبل مائة وعشرين عاماً طويلة !!
هي إذن بيئة الانقلابات .. النموذجية وليس غيرها ، صنعها تراكم الفشل على مدى عامين ونيف، فلا (الكيزان) و لا العسكر، قادرون على خلق هذا الانهيار التراكمي الفريد، فلا يبرئن رئيس حكومة النكبة "عبدالله حمدوك" وجوقته الانتقامية أنفسهم من صناعة هذا الواقع البائس المرير ، هم المسؤولون وليس غيرهم ، فكل هذا المنتج الفريد من الفشل السياسي والتنفيذي غير المسبوق من صنع أيديهم ونسج أفكار القوى الاستعمارية التي تخطط لهم.
في رأيي لن تتوقف محاولات الانقلاب على السلطة، ولو حمل الفريق "البرهان" بندقيته وحرس بوابة سلاح المدرعات، ما دامت الأحوال السياسية والاقتصادية والأمنية تمضي على نحو ما نرى كل يوم في بلادنا المخطوفة ، فالضباط يعانون كما يعاني الشعب، والجندي راتبه لا يكفيه أسبوع !!
محاولة الانقلاب على السلطة الانتقالية، هي محاولة قديمة متجددة – في ضمير العسكر- لوقف عجلة الانهيار ، و بيانها في نسخة 2021 لن يخرج عن دعوى إعادة الانتقال إلى الجادة ، فالأسباب واضحة للجميع والضغوط متصاعدة ، والشعب تحول لخانة (الترقب) و الأمل في تغيير يغيِّر أحواله ، ولذلك لم يكن مستغرِباً لنبأ الانقلاب الذي يُفترض أن يدعو لانتخابات مُبكِّرة ، بل كان متعجباً ومتحسراً على فشله !!
والانقلاب المقصود هنا بالطبع ، هو سلطة تطيح هذه السلطة العرجاء الخرقاء، وتقود الشعب بحكومة تصريف أعمال، لأشهر محددة تنتهي بقيام انتخابات عامة رئاسية وبرلمانية ، يستلم بعدها الرئيس والحزب المُنتخب السلطة في البلاد لدورة لا تزيد عن خمس سنوات !!
أما زمن الانقلابات التي يبقى قائدها الهُمام (الجنرال) في الحكم ست سنوات أو ستة عشر، فقد ولى و انتهى في كل العالم .
الجيش مهمته حراسة انتقال عادل .. و آمن .. و سريع .. وصولاً إلى حكومة ديمقراطية مُنتخبة ، وهذا ما لا يبدو أن الفريق "البرهان" قادرٌ على فعله ، ولهذا حاول زمرة ضباط (المدرعات) الانقلاب عليه ، وسيعيد غيرهم الكرة – لا محالة – إن استمر الحال على ما هو عليه ، فانقلاب الثلاثاء وصل ضباطه غرفة البث في التلفزيون وقفلوا أهم الكباري و استلموا سلاح المدرعات ولو ساعتين.
هي بروفة ناجحة لانقلاب كبير ، إن لم يفهم "برهان" و "حميدتي" و يتركان المراوغة، و تفهم (قحت) وتستبدل هذه الحكومة المتبلدة العاجزة وتعيد هذا الرجل البارد الغائب "حمدوك" من حيث أتى ، فهو لا يصلح لقيادة سيارة، دعك من قيادة دولة بهذه التعقيدات !!