إحْتِرتُ كثيراً في أي موضوع أكتب ، الموضوعات كثيرة ، خاصة تلك السّياسيّة أو تلك المُرْتبِطة بأحوال بلادنا ومجتمعنا ، في ظِلّ الراهن السّياسي الحالي ، فالأوضَاعُ محزنة ، والمهدّدات تحاصر استقرارنا ، ومع ذلك رأيت أن يكون مقال اليوم خارجاً عن كل ما إعتدت عليه إلا في حالات نادرة ، بأن أقوم بنشر مادة انتخبتها إنتخاباً ، وأشرك الآخرين معي فيها .. أنشر فقط وأترك التعليق لك .
حوار صحفي مع ملك الموت
قصة قصيرة
زهراء محمد رضا
ما أصدق البصيرة ساعة الدنو من الموت ! إنني اليوم أجد الحياة على حقيقتها ، بعد خمس وسبعين سنة من العدو وراء سبل العيش ، أكتشفتُ أنني أفنيت عمري كله هباء ، إنني الآن أكاد أرى ملك الموت يقترب مني ويهم ليقبض روحي المتعبة ، ثم يتردد قليلا ، تأخذه الشفقة بي فينظر إليّ نظرة المحب المغلوب على أمره ، دع عنك القلق أيها الملك الكريم ، هلم إليّ الآن ، اليوم وليس غداً ، أقبض روحي الآن وأرحمها من عذابات الحياة ومصائب القَدَر ، وتلك السقَطات التي أرهقتها وأفسدت عليها عيشها.. إنني الآن أستطيع رؤية كل ما مضى من سنوات عمري ، عمري الذي أفنيته كله في الشقاء ، والركض وراء كل شيء ، ولم أجنِ من هذا كله أي شيء يُذكَر .
نسيت طوال تلك الرحلة التي خضتُها وحدي أن أحيا ، جمعت المال دون أن أشعر بالغبطة ، لم أشعر قط بقيمته ، ثم أنفقته كله في شراء الأدوية وإجراء العمليات الجراحية ، التي لن تزيد من عمري المكتوب لحظة واحدة .
أقول أن حياتي كانت معركة ، خضتُها وحيداً بلا زوجة أو أطفال ، خضتُ أغلب سنواتها في الأسفار والمؤتمرات الصحفية ، وبعضها الآخر في المعتقلات والسجون ، سجين رأي معتداً برأيه ، كنت مغروراً منساقاً وراء الفراغ واللاشيء دون أن أدري، خرجتُ من عباءة أبي المُزارع ، وأمسكتُ بالورقة والقلم ، عشقتُ الأدب والشعر في سنوات طفولتي ومراهقتي ، وبعد نجاحي في الثانوية العامة دخلتُ كلية الإعلام ، فكان إنتقالي من القرية إلى القاهرة نقلة كبرى ، بل كانت لحظات السعادة مُسكِرة ، غيَّبَت عقلي حتى أخطأتُ تقدير العديد من الأمور ، أعجبَتني مسألة الصحافة ، وكنتُ أطرب لكوني طالباً بكلية الإعلام بجامعة القاهرة ، كنتُ ألهث وراء أصحاب الرأي والنفوذ ، انخرطتُ في كتابة المقالات وقراءة الكتب ، ثم انخرطتُ في العمل السياسي ووجدتُني أتشرَب مبادئ شديدة البعد عن واقع المجتمع ، وأنادي بها، كنت طائشاً ومندفعاً ، وكنتُ أشعر أن قلمي سلاحي ، لم أكن أعلم أنني أملُك في الحقيقة سلاحاً فاسداً ، أول رصاصاته كانت مصوّبة منذ البداية إلىّ وحدي ، دون أن أدري ، أودى سلاحي بي إلى عدة سجون على فترات متباعدة ، كنتُ أُسجَن ثم أخرج بعد بضع سنوات ثم سرعان ما أعود إلى السجن من جديد ، صحفي جريء لا يجد في تعصُبه لرأيه أي مشكلة ، يجد نفسه دائماً على صواب ولا يتراجع أمام توسلات أمه وأبيه .
وكانت حياتي خارج السجون غير مستقرة ، أشبه ما تكون بالحياة على كف عفريت ، كان أكبر همي أن أكبُر في عملي وتدرج في المناصب ، مناصب مرموقة ، أضافَت لي المال والشهرة وبعض النفوذ في فترات ، ثم مضايقات وسنوات حبس إضافية في فترات أخرى ، انتابتني أمراض القلب والسكري .
طوال عمري وأنا أجري وألهث، تارة وراء الأخبار ، وأخرى وراء المال ، ثم الشهرة الواسعة والعلاقات ، ثم وجدتُني محاطاً بعد وقت قصير بدائرة معارف هائلة ، والعديد من أصحاب المناصب والنفوذ ، والأمراض أيضاً ، كلنا ، بنو آدم ، مرضى ! تلك الحقيقة التي لا يمكن لأحد تكذيبها ، فأحدهم إن لم يكُن مصاباً بأمراض العظَمة والغرور ، فلابد أنه مريض بالضعف والهوان ، إما عدوانياً أو مغلوب على أمره ، وفي الحالتين هو مريض .
إنني اليوم أستطيع رؤية كل ما تعذر عليّ رؤيته في سنواتي الماضية ، فلا غشاء يعمي بصيرتي ، ولا تعصب يضللني عن الحقائق التي نادراً ما كنت أدركها .. حتى إنني أكاد بالفعل أن أجد ملك الموت يقترب ، لعله ينتظر أن أغفو قليلاً أو ينسدل جفنا عينيّ للحظة أو يطرفا ، فيقبض روحي في غفلة مني رحمة بي ورفقاً ، كي لا أهلع أو أضطرب.. لا تخش شيئا أيها الملك ، إنني أتعجل تلك اللحظة منذ سنوات طوال ، وتعجلها اليوم أكثر من أي وقت مضى ، وأخاف أن أسعى إليها بأن أنهي حياتي بيدي ، فأشقَى في حياتي الأخرى كما عشتُ في دنياي عيش الأشقياء ، ماذا تنتظر أيها الملك، لا تطل عليّ الإنتظار ، أيها الملك الكريم ، ادنُ مني الآن ، هيا اقترب