لم يعد أحدٌ مؤهّلاً لأن يلعب في عصرنا هذا دور الرئيس المُلْهَم ، صاحب القرارات الصائبة التي لا يأتيها الباطل من أمامها أو من خلفها ، فقد إنتهى عصر الشّخصيات الأسطورية التي يعنيها الإعلام الموجّه ، فقد انفتحت (طاقات) من الفضاء ، تحمل كُلّ يومٍ جديداً للناس ، في كل مكان ، بعد أن كانوا أسرى شاشة واحدة ، ومحطة إذاعية لا تبث إلا نشاط الرئيس القائد الملهم ، وصحبه الكرام.
الزعيم الحقيقي الآن هو فِكْر الرئيس وفعله ، فالفكر القائم على القيمة الأخلاقية العالية ، والمرتبط بالفعل والأداء الفردي والجماعي لمعاوني الرئيس في حكم الدولة ، هو (الزعامة) الحقيقية التي تثبِّت من أقدام الحُكْم والحاكم ، وهو ما يعزّز من السّلطة (الحقيقيّة) و (المعنويّة) للرئيس أو حزبه أو جماعة في الدولة .
لكن للأسف الشّديد ، فإن بعض الدول ، أو بالأحْرَى بعض منظومات الحُكْم في عدد من دول العالم ، مازالت أسيرة ذلك (الماضي القريب) ولازالت تعيش – كما يقول المغني – في (ماضي الذكريات) ، وتحاول أسر الشّعوب معها بأن تظلّ داخل نفس الدائرة .
أنظمة (عبادة الفرد) إلى زوال ، لكن (الجماعة) التي حول (الفرد) ، لا تريد للفرد أن يزول ، حتى وإن ذهب به الموت إلى باطن الأرض ، وتحاول هذه الجماعة جاهدة أن تجعل من (الفرد الغائب) ملاكاً حارساً للنظام من بعده ، وتحاول (شيطنة) كل خصومه وهو ميّت مثلما كان الرئيس الغائب نفسه يعمل على (شيطنتهم) وهو حي .
في ذهني الآن صورة قاعة قصر المؤتمرات الكبرى بالعاصمة الكوبية “هافانا” في سبتمبر من العام 2006 م ، وقد كنت هناك ، للمشاركة في تغطية أعمال القمة الرابعة عشر لحركة دول عدم الإنحياز التي شارك فيها السّودان ، وفد رئاسي عالي المستوى قاده المشير عمر حسن أحمد البشير ، رئيس الجمهورية السّابق ، ضمن قادة وممثلي (118) دولة هي دول الحركة ، مع حضور (35) دولة بصفة مراقب ، وكانت هي المرة الأولى والأخيرة التي أشاهد فيها الرئيس الفنزويلي الراحل “هوغو شافيز” الذي كان أحد نجوم تلك القمة ، خاصّةً عندما جاء دوره الخطابي عقب إلقاء الرئيس الأمريكي الأسبق “جورج بوش” لخطابه ، فقد قال “شافيز” بطريقة مسرحية : (إنني أشم رائحة الشّيطان ، لقد كان هنا ، ورائحته لم تزل في هذا المكان) .
في تلك اللحظات شعرت بأن “شافيز” قد قضى على كل ما حاول أن يبنيه من دور عظيم في إختراق وتحطيم جدار الحصار الأمريكي ، وفي بلورة تحالف قوي مع بوليفيا وكوريا الشّمالية وإيران وسوريا ، وجعل قمة كوبا منعطفاً جديداً على درب التطور والصراع في مواجهة العدوانية الأمريكية ، والدفاع عن الشعوب ومصالحها الحقيقية وحقها في السّيادة والحرية والتطور الخلاق .
كانت تلك محاولة (شيطنة) حقيقية للولايات المتحدة الأمريكية التي جعل منها الإمام الخميني (الشّيطان الأكبر) لمواقفها من الثورة الإيرانية ، لكن محاولات الشّيطنة وحدها لن تعمل على تشويه صورة واشنطن لدى عدد من الدول ذات الارتباط بالبيت الأبيض .
مات “شافيز” ورحل عن ظاهر الأرض إلى باطنها ، وجاء من بعده نائبه “نيكولاس مادورو” ليصبح رئيساً لفنزويلا ، أي ذهب الرئيس الفرد وجاءت جماعته لتحكم ، وكان إعلام الرئيس الراحل يصوّره كأنما هو قديس أو ملاك مقابل (الشيطان الأمريكي) وأراد الحاكمون بعده ، أن تظلّ صورته مقدّسةً لدى العامة ، فقد قال الرئيس “مادورو” بعد رحيل الرئيس بفترة ، في التلفزيون الفنزويلي إن خيال الرئيس الراحل “هوغو شافيز” تجلّى فيما يشبه المعجزة لمجموعة من العمال في موقع للبناء تحت الأرض ، عندما كانوا يمدّون خطّاً لمترو الأنفاق في العاصمة “كراكاس” وقال – دون أن يطرف له رمش _ إن العمال صوّروا بهواتفهم المحمولة صورة “شافيز” حيث تجلت على الحائط لفترة قصيرة ، ونحن لا نعلق على ما سبق سوى بجملة واحدة هي : “رحل الرئيس لكن أشباحه مازالت تحكم” .