منذ بداية حرب أبريل ومع قراءتنا الواضحة لمدى التدهور الذي اعترى النظام الصحي، ظللنا نعكس عبر عمودنا الراتب #البعد_الآخر حجم المخاطر التي يمكن أن تترتب على الصحة العامة وصحة البيئة، جراء تداعيات الحرب مقرونًا بضعف وهشاشة النظام الصحي، وحينها نبهنا لضرورة تأمين المخزون الاستراتيجي للأدوية المنقذة للحياة والأدوية الخاصة بالأمراض المزمنة والسرطان وغسلات الكلى.
كما طالبنا بضرورة وضع خطة أو استراتيجية صحية لطوارئ الحرب، تستصحب كيفية تشغيل المؤسسات الصحية المدنية في مناطق النزاع وتأمين تدفق الامداد الطبي والمكون البشري المشغل لها، بالاستفادة من تجارب الدول التي خاضت نزاعات شبيهة، مع تشجيع المنظمات المتخصصة في العمل أثناء النزاعات لمباشرة إسنادها للمنظومة الصحية العاملة بمناطق الاشتباك.
طالبنا بضرورة أن تتضمن خطة الصحة لطوارئ الحرب، سياسات محددة لاستيعاب المهن الطبية والصحية التي نزحت للولايات الأكثر استقرارًا، وفق أولويات تبدأ بحصرها وتصنيفها وإعادة توزيعها بخارطة احتياجات محددة بجميع ولايات السودان المستقرة نسبيًا، لتدعيم النظام الصحي بها، وتشغيل مؤسسات النظام الصحي فيها وصولا لطاقته القصوى وذلك لتحقيق هدفين أولاهما تحسين الخدمة المقدمة كمًا ونوعا
وثانيهما استيعاب الضغط المتوقع على طلب الخدمة عند زيادة عدد الوافدين من مناطق النزاع المسلح، وكان يمكن تنفيذ هذه الاستراتيجية بكل سهولة ويسر عبر تنسيق وتعبئة موارد الولايات وفق خارطة توزيع واضحة للمكون البشري المتاح من الاستشاريين والاختصاصيين من الأطباء وبقية المهن الطبية والصحية، وتوفير أبسط متطلبات إعادة توزيعهم من ترحيل وسكن وإعاشة فكانت ستكون الفائدة مضاعفة مئات المرات.
طالبنا بحصر واستيعاب جميع العاملين بالصحة العامة وصحة البيئة من (مفتشين، ضباط، ملاحظين، مساعدي ملاحظين وعمال الصحة ومكافحة نواقل الأمراض وغيرها من تخصصات الصحة العامة)، النازحين من مناطق النزاع للولايات الأكثر استقرارا بنفس السياسات التي أوضحناها، والعدد المؤهل والمدرب الذي يجلس على الرصيف الآن كان كافيًا لسد النقص بجميع محليات و وزارات الصحة بالولايات المستقرة نسبيًا.
حذرنا قبل شهور من مخاطر التهاون البائن في التعامل مع طوارئ أمراض وأوبئة الخريف للأسباب التي أشرنا إليها أعلاه، وطالبنا بضرورة تفعيل تدخلات مكافحة نواقل الأمراض واستدامة كلورة وتعقيم مياه الشرب وتحسين نظم إصحاح البيئة ونقل ومعالجة النفايات مع التركيز على ضرورة توعية وإشراك المواطنين للقيام بدور فعال في تدخلات الحماية الشخصية وإصحاح البيئة، والاستجابة السريعة للبحث عن العلاج حال ظهور أعراض أمراض (الملاريا، الضنك، الكوليرا، أمراض الطفولة وغيرها)، مع ضرورة تبني السلوكيات الصحية في حفظ تعقيم مياه الشرب ونظافة الأيدي والاستخدام المستدام للناموسيات المشبعة، وإزالة أو معالجة أماكن تكاثر البعوض ونواقل الأمراض داخل أو حول أماكن سكنهم.
بعد كل هذه المناشدات، خرجت علينا وزارة الصحة الاتحادية بما يسمى بالخطة الافتراضية لطوارئ الحرب، وهي خطة كسيحة اعتمدت على مجموعة محددة لا تستوعب سوى (٥٣) من قيادات النظام الصحي، جلهم الآن خارج السودان، خاصة مدراء الإدارات العامة، يديرون ملف الصحة افتراضيا عبر الإنترنت، و وجهت الخطة بأن يتم توزيع جميع ما تبقى من المهن الطبية والصحية للإدارات النظيرة بالولايات كفرق صحية مساندة، بلا أعباء أو حقوق حتى الآن، مما أدى لتوقف جل هذه الأطر عن العمل منذ الأسبوع الأول لعدم وجود أي أعباء موكلة لهم بكل أسف.
والحال هكذا، تعيش البلاد أسوأ كارثة صحية تمر بها، حيث انتشرت بحسب تقارير وزارة الصحة الاتحادية المنشورة بصفحتها الرسمية على الفيسبوك، أوبئة الملاريا، حمى الضنك، الكوليرا، الحصبة، الشيكنغونيا، وعجزت وزارة الصحة الاتحادية عن الإيفاء بمطلوبات مراكز غسيل الكلى، بل حتى المنح التي تم توفيرها من الغسلات، وصلت لمراكز غسيل الكلى ناقصة سيور الدم، ويعمل الآن جهاز واحد فقط للعلاج بالأشعة لمرضى السرطان (بمروي)، وفشلت كل سياسات توفير الدواء عبر شركات توزيع الدواء الخاصة، رغم التساهل الكبير الذى تم منحه لها، بسبب عدم وجود ضوابط لأولويات استيراد الأدوية.. الخ.
ما أشرنا إليه أعلاه، يوثقه تقرير وزارة الصحة الاتحادية الذي نشرته الإدارة العامة للطوارئ الصحية ومكافحة الأوبئة، قسم الترصد المرضي، بصفحتها على الفيسبوك أمس، حول الوضع الوبائي الراهن بالسودان للكوليرا، مؤكدة بأن دخول المرض لأي منطقة يصعُب منعه ولكن يُمكن السيطرة على انتشاره باتخاذ الإجراءات الوقائية.. وكشف التقرير بأن كل محليات ولاية القضارف سجلت حالات كوليرا، حيث تم تبليغ (274) حالة إشتباه مضمنة لـ (19) وفاة من 28 أغسطس حتى 26 سبتمبر 2023م.. وأضاف التقرير، بلغت ولاية الخرطوم من يوم 24 سبتمبر حالات إسهال مائي حاد، في خلال الثلاثة أيام تم التبليغ عن (38) حالة مشتبهة من ضمنها (6) حالات مؤكدة.
فيما يلي الاستجابة، فقد أورد التقرير جهود إسناد ولاية القضارف بفرق اتحادية ومن الصحة العالمية وغيرها، وهي للعلم فرق استشارية، وبعض معلومات العلاقات العامة حول توفير الدواء الذي يجافيه بالطبع الواقع على الأرض بحسب التقارير الإعلامية المنشورة من أهل القضارف، ولكن أخطر ما ورد في التقرير كان، على المستوى القومي يوجد مخزون استراتيجي سيتم إعادة توزيعه للولايات المتوقع تأثرها بالمرض، وهو أمر غريب للأمانة، لماذا لم يوزع للآن ؟! والكوليرا لا تحتمل التأخير، ولكن الفاجعة الأكبر كانت، كما سيتم طلب إمداد دوائي للاستجابة لانتشار الوباء المتوقع !!، وسيتم طلب أمصال ضد الكوليرا لتُساهم في الوقاية الجماعية وتقلل من حدة انتشار المرض !!
ليبقى السؤال متى سيتم ذلك ؟!، يخاطبنا القائمين على أمر الصحة بأريحية غير مريحة للمطحونين بنيران الأوبئة، لأنهم آمنين من المساءلة أو المحاسبة، أو هكذا يظنون حتى الآن.
ولا ندري لماذا سكت التقرير عن بقية الأوبئة التي تطحن الناس الآن، من انتشار معلن للملاريا، الحصبة، وغيرها.. والحال هكذا نتوقع ارتفاع جنوني في أسعار الأدوية للفجوة الكبيرة بين العرض والطلب الذي أفرزته سياسات الامداد الدوائي العرجاء الذي تتبناه لجنة اللوجستك بوزارة الصحة الاتحادية، حيث تشير جميع التقارير الآن لشح بل وانعدام معظم الأدوية الأساسية المنقذة للحياة وتضاعفت أسعارها لأكثر من أربعة مرات الآن، ويتوقع أن تزيد رقعة انتشار الأوبئة لا سيما الكوليرا والضنك، ما لم يتم مراجعة وتغيير منهج عمل وزارة الصحة الاتحادية في التعاطي مع طوارئ الحرب.
أخيرًا ولضرورات الطوارئ الصحية الملحة نطالب بإصدار قرار سيادي يقضي بتحويل جميع أولويات وميزانيات المحليات لتمويل مناشط إصحاح البيئة وفق هذه الأولويات (تفعيل مناشط الرقابة على الأغذية، كلورة مياه الشرب، النظافة العامة ونقل النفايات، مكافحة نواقل الأمراض “البعوض والذباب” بطوريه اليرقي والطائر، تفعيل مناشط تعزيز الصحة ومشاركة المجتمع)، و أن ينص القرار السيادي بإلزام جميع المحليات باستيعاب جميع العاملين بصحة البيئة النازحين من مناطق النزاع فورا، مع توفير السكن المناسب والإعاشة لهم ولأسرهم لينخرطوا فورًا في جهود مكافحة الأوبئة، ما لم يتم اتخاذ إجراءات عاجلة وجادة ستكون النتيجة أسوأ بكثير مما نتصور.
والله الموفق