تقرير :محفوظ عابدين
لم تكن فرحة العاملين بهيئة سكك حديد السودان وهم يسيرون رحلة قطار الخرطوم بورتسودان بعد انقطاع 15 عاما، أكبر من ركاب تلك الرحلة الذين هم في جوف القطار تعلو وجوههم (ابتسامة) وهم في طريقهم إلى (ثغر) السودان، تحفهم (دعوات) المودعين وتستقبلهم (فرحة) المنتظرين قدومهم بالشوق والحنين.
ذلك لأن الرحلة في حد ذاتها تحمل الكثير من الدلالات والمؤشرات في عودة تلك (الروح) التي غابت ب(موات) تلك الرحلات لتعيد من جديد تشكيل الوجدان السودانية في التأخي الاجتماعي والثقافي والذي تلعب فيه السكة حديد دوراً أكبر من الأندية والملاعب ومؤسسات المجتمع المختلفة في ذلك التمازج والذي توثقه الحكايات والمواقف ويصبح شاهداً بين الأجيال والأسر والتي كانت نقطة تكوينها في واحدة من تلك الرحلات.
والسكة حديد واحدة من المرافق التي امتد عمرها لأكثر من قرن من الزمان لكنها كانت حاضرة وسط الشعب السوداني طوال تلك الفترة بين زمانين يفصل بينهما وقت إعلان الاستقلال، ولم ينافسها في هذا الحضور مرفق آخر إن كان مشابها مثل النقل النهري الذي يعمل في إتجاه واحد من الشمال إلى الجنوب وبالعكس مرتبطاً بمجرى النيل.
والسكة حديد تربط السودان بكل الإتجاهات شمالاً وغرباً وشرقاً وجنوباً، أو مختلفا مثل مؤسسة البريد والبرق والمعروفة شعبياً ووسط الناس ب(البوستة) مع الفارق الكبير بينهما والبوستة تربط الناس كما هو معروف بالرسائل والبرقيات وهو ربط عبر (الحروف) وليس مباشرة كما في السكة حديد وهذا وقعه أكبر في التعارف والتبادل الثقافي والتماسك الاجتماعي.
والبوسته عمل فيها عدد من شعراء الأغنية السودانية مثل عبد الله النجيب ومحمد يوسف موسى صاحب أغنية كلمة للفنان صلاح بن البادية، ومن الفنانين الذين عملوا في البوستة الفنان صلاح مصطفى، وقد تبدو العلاقة قريبة بين الحروف في (الرسائل) و(البرقيات) وحروف (الأشعار) وكلمات (الأغاني)، ولكن السكة حديد قدمت شخوص في كل المجالات السياسية والثقافية والاجتماعية قدمت الفنان عبد العزيز محمد داؤود والصحفي الكبير محمد الحسن أحمد صاحب صحيفة الأضواء ورئيس تحرير الصحافة في السبعينات.
السكة حديد أسست للعمل النقابي في السودان والمطالبة بحقوق العمال في الأربعينات والسكة حديد أسست للعمل السياسي من خلال الطبقة العاملة ونشر مفاهيم الاشتراكية وثقافة الانتخاب وتقديم قادة العمال أعضاءاً في هياكل السلطة اعترافا بدورهم في العمل السياسي.
السكة حديد كانت وعاء لنقل ثقافات البلاد بين أقاليم السودان المختلفة فكم حمل قطار نيالا إلى الجزيرة والخرطوم تلك المقتنيات من الإرث الشعبي الذي تتميز به دارفور ونقل ثقافة الجودية والنفير وأشعار الحكامات في السلم ووقت الحصاد وغيرها وكم حمل بذات الود قطار حلفا وكريمة فنون صناعة الطعام (الزوادة) وحفظ الأطعمة لمدة الرحلة التي ربما أمتدت لأكثر من 72 ساعة هذا اذا لم تتوقف رحلة القطار لأي سبب فني أو غيره.
وبذات المحبة يحمل قطار بورتسودان ثقافة أهل الشرق في التراحم والتوادد وحضور الصديري وخلال الشعر، ورحلة قطارات الركاب إن كانت إلى الغرب أو الشرق أو الشمال أو الوسط هي رحلات سياحية وثقافية واجتماعية واقتصادية يتبادل فيها الركاب خيرات السودان حيث ينقل البلح من الشمال إلى الضعين وبابنوسة ونيالا وتجد التبلدي والدوم والكركدي في كريمة وحلفا وتجد منتجات السعف التي تشتهر بها الدامر في بورتسودان ومدني والخرطوم، ومن شندي نقل منتجات صناعة (الدمور)من الجلاليب والشالات والطواقي والتي برع فيها الأقباط بالمدينة.
السكة حديد كانت حاضرة في الأغنية السودانية بشكل طاغي دون غيرها وهي التي تجيء بالمحبوب وتبتعد به وهي التي تحمل رسائل الشوق والمحبة فكانت أغنية (من بف نفسك يا القطار) للفنان زنقار، و(قطار الشوق)، و(القطار المر) لعثمان الشفيع (والقطر القطر نويت السفر) لسفير الأغنية السودانية سيد خليفة وانتهاءاً بالفنانين الشباب (القطار دور حديده ) للفنان الشاب أحمد الصادق.
والسكة حديد هي المرفق الوحيد الذي يتجدد شبابه رغم امتداد عمره وهي المرفق الوحيد الذي يؤدي دوره الخدمي والاقتصادي والاجتماعي رغم تعاقب الأزمان.
إن بورتسودان التي عانت من (الفراق) بسبب غياب القطار ستسعد من جديد بلقاء الأحباب.
المصدر: سونا