صحيفة اللحظة:
في خضم موجة من الصراع العلني المتأجج في السودان بين رئيس “الحركة الشعبية” شمال الموقعة على اتفاق سلام جوبا، مالك عقار عضو مجلس السيادة الانتقالي، ونائبه ياسر عرمان، تقدمت وزيرة الحكم الاتحادي بثينة إبراهيم دينار، باستقالتها رسمياً من منصبها، وذلك انحيازاً للانتفاضة واحتجاجاً على استمرار الانقلاب العسكري وبطء تنفيذ اتفاق السلام، وضغوط وعراقيل ظلت تتعرض لها وفق ما حوى بيان استقالتها.
احتجاج وهجوم:
احتجت دينار في استقالتها على “استمرار موت شباب وشابات السودان المتطلعين إلى الحرية والسلام والعدالة”، منتقدة البطء في تنفيذ اتفاق السلام، وقالت إنها لم تعد قادرة على تأدية مهامها والعطاء ولا على تجاوز خط ضميرها ومبادئها.
وجّهت الوزيرة المستقيلة في حيثيات خطاب تنحيها عن منصبها، انتقادات حادة لوضع ما بعد انقلاب 25 أكتوبر (تشرين الأول)، كشفت فيها عن عراقيل ومطبات واجهتها في أداء مهامها، وتدخلات في مهامها واختصاصاتها، وضغوط تعرضت لها “لتمرير توجهات محددة تهدف إلى تصفية إرث حكومة عبدالله حمدوك والحرية والتغيير”، بالولايات والمحليات.
قالت الوزيرة في الخطاب المنشور على صفحتها على “فيسبوك”، تحت عنوان “من أجل قضايا الثورة والمواطنة واتفاق السلام”، إنها تجدد انحيازها لقوى “الانتفاضة الرافضة للانقلاب حتى هزيمته وتحقيق الدولة المدنية ودولة القانون التي ينشدها الجميع”.
وكشفت دينار عن عرقلة وضغوط تتعرض لها على وزارتها، إلى جانب المماطلة في تمويل برامج ومشروعات وخطط أعدتها، ومقاومتها ورفضها لما يحدث الآن في المستويات المختلفة للمؤسسات الحكومية والخدمة المدنية لإعادة عناصر النظام السابق.
أضافت “أن إطار السلام والتحول الديمقراطي الذي تم فيه التفاوض وجاء باتفاقية جوبا لسلام السودان، تم إسقاطه بانقلاب 25 أكتوبر الماضي، وجعله عرضة للنقض وعدم الالتزام ببنوده، جعلت ما يحدث الآن لتنفيذه أشبه بتفاوض جديد”.
ووصفت دينار ما يتم الآن بخصوص ما يسمى بتنفيذ الترتيبات الأمنية، بأنه عبارة عن تشويه لما تم الاتفاق عليه، لأنه يفتقر لآليات التنفيذ الصحيحة المتفق عليها في اتفاقية السلام، مبينة أن الانقلاب الذي عطل تنفيذ اتفاق جوبا، مرتبط ارتباطاً وثيقاً بقيام مؤتمر نظام الحكم في السودان، الذي تعطل تماماً ومعه اختصاصات وزارتها ودورها في تنفيذه.
تنبيه الحركات:
فكيف ينظر المراقبون والمحللون لتداعيات استقالة الوزيرة على المشهد السياسي، وبخاصة بقية وزراء الحركات المسلحة الموقعة على السلام؟ وهل تفتح الاستقالة باباً لتنحي وزراء آخرين، بحيث تكون مدخلاً لأول التصدعات في حكومة البرهان الحالية؟
في السياق، اعتبر محمد حسن التعايشي، عضو مجلس السيادة السابق، أن استقالة الوزيرة تنبيه مهم لقادة الحركات المسلحة، عضده بالتأكيد على أن عمليات إنهاء الانقلاب التي تتشكل داخلياً وخارجياً تعتبر كذلك أكبر مخرج آمن للبلاد، مذكراً قادة الحركات بأن لا مجال لتكرار الأخطاء، وأن دعم عمليات الانتقال ربما تكون فرصة ذهبية لتصحيح الأخطاء وبناء جبهة عريضة من أجل إكمال الانتقال الديمقراطي وبناء السلام الشامل.
قال التعايشي “على الرغم من أن بعض قيادات الحركات الموقعة على سلام جوبا داعمة لانقلاب 25 أكتوبر، والبعض الآخر تصالح وتعايش معه، لكن المعلوم أن هذا الانقلاب مثلما تم على المسار الديمقراطي وقضايا الانتقال، هو أيضاً انقلاب استراتيجي على مكتسبات اتفاقيه السلام، التي إذا ما طبقت كما ينبغي لصححت الأخطاء التاريخية في البلاد ووضعت أسساً متينة للمواطنة المتساوية”، مشيراً إلى أن “الوطن خسر فرصة تاريخية في بناء قواعد السودان الجديد بسبب الانقلاب، لكن تعتبر الحركات المسلحة هي الخاسر الأكبر مما حدث، وستكشف الأيام كل المشهد وإن كان جزء كبير منه قد تكشف للذين يحسنون النظر”.
ويتفق التعايشي مع الوزيرة المستقيلة في معظم الحيثيات والمرافعات التي قدمتها، لكنها وإن جاءت متأخرة خيراً من أن لا تأتي أبداً، إذ ليس للبرهان ما تبقى ليخسره، مضيفاً “لذلك أقرأ الاستقالة من باب الاعتراف بالخطأ والاعتذار عنه والعزم للعمل من أجل التغيير وهزيمة الانقلاب. وأجدني احترم ما أقدمت عليه وزيرة الحكم الاتحادي، وأتمنى أن يتقبل السودانيون هذا الاعتراف والاعتذار الشجاع والنبيل”.
تصحيح “خطأ استراتيجي”:
ويردف عضو مجلس السيادة السابق، “قد تُقرأ الاستقالة أيضاً من خلال الانقسام وسط الحركة الشعبية كما بدا أخيراً، لكن أرجو أن يقرأها الإخوة في الحركات المسلحة على أنها تأكيد على صحة ما ذهبنا إليه، في أنه ليس بالضرورة أن يتصالح قادة الحركات مع الانقلاب لحماية السلام، كما أنه ليس بالضرورة العودة إلى الحرب مجدداً، إذ إن اتفاق السلام في الحقيقة يمثل أكبر حجة كان يمكن استخدامها لإجبار قادة الانقلاب على التراجع عنه، وقد قدمت لهم شخصياً هذه النصيحة يوم 27 أكتوبر أي بعد يومين من الانقلاب”.
يتابع “الاستقالة تعتبر أيضاً تأكيداً على أن المخرج يكون عبر دعم عمليات إنهاء الانقلاب وتصحيح الخطأ الاستراتيجي الذي وقع فيه قادة الحركات، والعمل الجاد مع الآخرين لاستعادة المسار الديمقراطي وبناء بديل مدني يكون فيه الجيش في الموقع الطبيعي، الثكنات”.
ويذُكِّر التعايشي بأن السلام بُنِيَ على 31 مبدأ، جميعها تعزز قضية السلام بالديمقراطية والمواطنة المتساوية وبناء جيش مهني وقومي واحد، وإبعاده عن التدخل في الحياة السياسية، مشيراً إلى أن “الإخوة في الحركات ليسوا بحاجة لتذكيرهم بأن الانتخابات رهينة توفير أسس الأمن وعوده النازحين واللاجئين إلى مناطقهم، وكل ذلك يستحيل أن يتحقق إلا في وضع ديمقراطي سليم”.
أثر ضئيل:
من جانبه، قلل المحلل السياسي المتخصص في شؤون الحركات المسلحة، محمد موسي محمد بادي، من تأثير كبير قد تحدثه مغادرة وزيرة الحكم لموقعها “الذي جاء متأخراً على مجريات الانتفاضة والتغيير، نظراً للاختلاف والتطورات التي اعترت التوازنات والتكتيكات السياسية عما كان سابقاً. إذ يبدو المشهد الآن أكثر هدوءاً وعقلانية، بالنظر إلى تصريحات بعض قيادات قوى الانتفاضة في الحرية والتغيير وحزب الأمة، مثل إبراهيم الشيخ ومريم الصادق المهدي، باقتراب التسوية في سياق تنازلات باتت واجبة من الأطراف كافة، ما يجعل استقالة الوزيرة في هذه الظروف والأجواء قد لا تقدم أو تؤخر من حيث تأثيرها في المشهد السياسي”.
واتهم بادي الوزيرة بـ”الفشل في إنزال اتفاق سلام جوبا إلى الولايات بما يخاطب قضايا الناس هناك، فضلاً عن التمايز الذي اتبعته في محاولتها كمثل بعض الذين تقلدوا المناصب باسم السلام، بإبعاد بعض الحركات الأساسية في الاتفاق والتنكر لدورها في أوساط المجتمعات المتضررة من الحروب، وذلك بتوجيهها حكومات الولايات باحتكار عملية السلام لمجموعة محدودة من الموقعين، ما أضر بالعملية وأفشل تطبيقها بالشكل المرجو على واقع الناس”.
ورأى المحلل السياسي أنه “من المتغيرات أيضاً، أن البرهان بعد خطابه حول انسحاب المكونات النظامية من الحوار السياسي وتركه للمدنيين، يكتسب قوة أكثر نتيجة فشل عملية التوافق بين المكونات السياسية والمدنية، ما جعل الظروف السياسية الراهنة أقرب إلى كونها تصب في مصلحة قائد الجيش، في ظل الانقسام الواضح وصعود مبادرة نداء أهل السودان للوفاق الوطني، والتي اقترحت حلولاً لا تصنف الجيش في محل عداء مع الساسة، كما يعتقد بعض النشطاء”.
انقسامات الحركات:
ولفت بادي إلى حقيقة أن “الحركات المسلحة التي وقعت على اتفاق السلام-جوبا 2020، لم تأت إلى الخرطوم على قلب رجل واحد، وتفتقد إلى التنسيق البيني الكافي، وظلت منقسمة إلى مجموعتين، حركات مقابل حركات أخرى، ودخل بعضها مجلس الشركاء في حين تمنع بعضها واستكثر تلك العضوية على البعض الآخر. وهكذا صار تنفيذ اتفاق السلام يعاني من الشلل والضعف نتيجة لاستئثار بعض الحركات التي لا تمثل كل مكونات المناطق ومساراتها، ويعود هذا كله لضعف التجربة السياسية لبعض الحركات”.
وأبدى المحلل في شؤون الحركات، أسفه “لحالة التشظي والانشطارات التي تضرب الحركات الموقعة على اتفاق السلام، بما لا يبشر بخير، وتبدو هناك دلائل كثيرة على ذلك، هي جديرة بالتأمل واستخلاص العبر من أجل وضع الحلول المناسبة والآليات الفاعلة لتطبيق سلام حقيقي، يتجاوز مثل هذه السلبيات”.
وعلى صعيد متصل، أكد حذيفة محي الدين، القيادي بتحالف السوداني الموقع على السلام، احترامه لموقف الوزيرة المستقيلة وفق مسوغات تراها موضوعية بحسب وجهة نظرها، دفعتها للتنحي. غير أن “الحديث عن أن الاستقالة كان دافعها الانحياز إلى الانتفاضة فهو في تقديرنا قول مجاف للواقع، بافتراض أن انطلاقة حديثها هو ما تم في 25 أكتوبر الماضي وتسميته انقلاباً من بعض المجموعات، فقد كان الأولى أن يكون موقفها هذا في ذلك الوقت برفض العودة إلى الوزارة مرة أُخرى”.
“من رحم الصراع”:
ويرجح محي الدين أن تكون استقالة الوزيرة جاءت نتيجة للصراعات الكبيرة التي تشهدها “الحركة الشعبية لتحرير السودان شمال”، والانقسام حول الرؤية السياسية ومساندة للرؤية التي يتبناها نائب رئيس الحركة ياسر عرمان، متمنياً أن تدير الحركة الشعبية حواراً داخلياً عميقاً وتوحيد مواقفها للحفاظ على وحدتها. كما لا يرى أن الاستقالة سيكون لها تأثير واضح على المشهد السياسي، وذلك نتيجة لانسداد الأفق السياسي وتردي الأوضاع السياسية والغياب التام للدولة.
وكانت الخلافات قد تصاعدت في الآونة الأخيرة داخل “الحركة الشعبية” بسبب تباعد المواقف تجاه الانقلاب، وتفجرت بعد إعلان رئيس الحركة الذي يتولى منصب عضو مجلس السيادة، تبرؤه من مشاركة قادة في اجتماعات “ائتلاف الحرية والتغيير”.
وكان نائب رئيس “الحركة الشعبية”، ياسر عرمان، من أبرز القياديين المشاركين في كل فعاليات ولقاءات ومؤتمرات “الحرية والتغيير” المجلس المركزي الرافض للانقلاب، بينما يشارك مالك عقار رئيس الحركة في السلطة الحالية بحجة تنفيذ اتفاق سلام جوبا.
ودخلت الوزيرة بثينة دينار، المنتمية إلى “الحركة الشعبية لتحرير السودان شمال” برئاسة مالك عقار، إلى كابينة مجلس الوزراء ضمن وزراء الحركات المسلحة، الذين تم تعيينهم بموجب اتفاق جوبا لسلام السودان الموقع بينها وبين الحكومة. وقد كانت ضمن ستة وزراء فقط، استمروا في مناصبهم منذ حكومة عبدالله حمدوك، لم تمسهم إجراءات وقرارات قائد الجيش بحل مؤسسات الفترة الانتقالية، وفض الشراكة مع قوى “الحرية والتغيير”، وتعليق بنود من الوثيقة الدستورية.
نقلاً عن اندبندنت عربية