تواجه القوات المشتركة التي شكلتها السلطة الانتقالية في السودان بمقتضى بنود ملف الترتيبات الأمنية في اتفاق سلام جوبا كخطوة أولية قبل دمج عناصر الحركات والميليشيات داخل جيش وطني واحد، أزمات عديدة في ولايات دارفور التي تتولى عملية تأمين أجزاء منها بعد رحيل قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة (يوناميد) ما جعلها غير قادرة بمفردها على التعامل مع الفوضى التي تعم مناطق متفرقة في ولاية شمال دارفور.
وقررت اللجنة العليا لمتابعة تنفيذ اتفاق جوبا السبت مراجعة وضع الحركات غير الرئيسية التي وقعت على اتفاق جوبا لسلام السودان في 3 أكتوبر الماضي، ويشملها بند الترتيبات الأمنية، على أن ينطبق عليها ما ينطبق على الحركات الرئيسية، وطالبت اللجنة العسكرية العليا المشتركة الخاصة بالترتيبات الأمنية باتخاذ كافة التدابير اللازمة لاستكمال وتشكيل آليات تنفيذ اتفاق الترتيبات الأمنية.
ويبدو أن هناك خلافات داخلية بين العناصر المنضوية تحت لواء القوات المشتركة المشكلة حديثا تسببت في الاشتباكات التي اندلعت بين عناصر من الحركات المسلحة داخل هذه القوات وبين ميليشيات في منطقة كولقي أسفرت عن مقتل وإصابة عشرات.
وتتضارب المعلومات حول طبيعة ما جرى في ولاية شمال دارفور، فقد أكدت لجنة أمن الولاية أن قوات أطراف السلام التي تم اختيارها ضمن القوات المشتركة لحماية الموسم الزراعي تعرضت لكمين نصبه مسلحون، الجمعة، أثناء طريقها للانضمام إلى القوة الرئيسية التي سبقتها لمنطقة “تابت” واشتبكت مع جهة لم تُحدد هويتها بعد.
في المقابل، وجهت “تنسيقية أبناء الرحل بشمال دارفور” اتهامات للحركات المسلحة بالاعتداء على المزارعين، وطالبت حكومة الولاية بضبط الجناة وتقديمهم للعدالة، وإخراج الحركات من منطقة “كولقي”، وإجراء تحقيق دولي، داعية الجيش وقوات الدعم السريع للعمل على حماية المدنيين العُزل.
وكشف الحادث الأخير عورات عديدة في بند الترتيبات الأمنية في اتفاق سلام جوبا الذي لم يجر تنفيذه حتى الآن، لأنه لم يراع الخلافات التاريخية للنزاع الدائر في دارفور والذي سيكون مهدداً لأي محاولة من شأنها إنزاله على الأرض، إضافة إلى أنه لم يتم ربطه مع باقي ملفات السلطة والثروة والأراضي والحواكير بما يدعم إمكانية تنفيذه وسط أجواء من الثقة تسهل مهمة القوات الأمنية.
يوجه أبناء دارفور انتقادات للقوى التي تفاوضت في جوبا لأنها لم تضع اشتراطات وبنود تفصيلية تقوض عمليات التسليح المستمرة في مناطق الهامش التي تستهدف خلق وضعية جيدة عند دمج الجيوش بصورة نظامية، ويتهمون الأجهزة الأمنية الحكومية بالتواطؤ والتقصير لأنها لم تطهّر نفسها من الداخل ما أدى لتجميد عملية إعادة هيكلة المنظومة الأمنية.
وجرى تشكيل القوات المشتركة بضغوط مارستها القيادات العسكرية على الحركات المسلحة التي اتهمت المكون العسكري في السلطة الانتقالية بعرقلة تنفيذ بنود اتفاق السلام في شهر مايو الماضي، وتتكون من عناصر تابعة للقوات المسلحة والدعم السريع وجهاز المخابرات العامة، وحركات الكفاح المسلح.
وكان من المقرر أن يتكوّن القوام الأساسي للقوات من 12 ألف جندي وضابط نصفهم من الأجهزة الأمنية الحكومية، والنصف الآخر من الحركات المسلحة، لكن حتى الآن لم يجر استكمال تشكيلها وتتواجد في المناطق الهادئة نسبيًا التي لا تتسم بتعقيدات الصراع القبلي المعروفة في دارفور.
ومن المؤكد أن هناك أزمة ثقة سياسية ما زالت حاضرة بين الحركات المسلحة وقوات الدعم السريع على وجه التحديد، وأن مرارات الحروب السابقة لن يكون من السهل نسيانها في ظل التوتر القبلي والمجتمعي الحالي، بالتالي فالرغبة في الهيمنة مازالت حاضرة لدى قوى كان لديها نفوذ في الهامش أثناء فترة الرئيس السابق عمر البشير.
ويقول مراقبون إن وجود قادة الحركات المسلحة على رأس السلطة التنفيذية لن يكون كافيًا لبناء جسور الثقة بين الطرفين، وإن عدم التوصل إلى اتفاق سلام شامل مع جميع القوى التي لديها ثقل سياسي وعسكري يجعل الحركات الموقعة على اتفاق جوبا في حالة تحفز مستمر لضمان الحفاظ على مكاسبها، في وقت تريد قوات الدعم السريع أن تكون طرفاً مؤثراً في معادلة الأمن والسلطة في مناطق الهامش.
ولفتت حركة جيش تحرير السودان، جناح مصطفى تمبور والتي انضمت لاحقاً لاتفاق جوبا، إلى أن الحادث الأخير ليس له علاقة بالصراعات القبلية كما يروج البعض وأنه “مفتعل عبر تنظيم دقيق يهدف إلى زعزعة الأمن والاستقرار، وإعاقة عملية الانتقال السياسي في السودان عموماً، ودارفور خصوصاً”.
وفسر متابعون هذه الاتهامات على أنها موجهة إلى قوات الدعم السريع التي تملك علاقات قوية مع ميليشيات مسلحة في هذه المناطق، ما يبرهن على أن الفجوة مستمرة وإنزال ملف الترتيبات الأمنية على الأرض قد يكون حلما بعيد المنال، بل إن الخطوة المبدئية التي اتخذتها السلطة الانتقالية ربما تصبح غير قابلة للتنفيذ إذا لم يجر تحصينها بخطوات سياسية ومجتمعية متماسكة في الهامش تدعم نجاحها في مهمتها.
وأوضح عضو الأمانة السياسية بحركة جيش تحرير السودان، جناح مني أركو مناوي، آدم والي، أن القوات المشتركة غير قادرة على ضبط الأوضاع الأمنية في دارفور، لأن المنفلتين الذين تسببوا في الحادث الأخير محسوبين على أطراف مشاركة ضمن هذه القوات ولديهم معرفة بتحركاتها وخططها الأمنية بالتالي من السهل استهدافها، والأمر قد يتكرر مرات عديدة لاحقا.
وتساءل في تصريح خاص لـ”العرب” لماذا تقدمت القوات المحسوبة على الدعم السريع إلى منطقة “تابت” في شمال دارفور من دون أن تصطحب معها قيادات الحركات المسلحة؟ ومن المسؤول عن الاعتداء على المزارعين وطردهم من أراضيهم قبل اندلاع الاشتباكات؟ مشيراً إلى أن الحركات المسلحة تنتظر نتائج التحقيق في الحادث للتعرف عن المتسبب في تأزم الأوضاع في دارفور.
واتخذت السلطة الانتقالية خطوات متلاحقة لتقويض الهوة التي قد تؤدي إلى تفسخ القوات المشتركة، وأرسل مجلس السيادة، السبت، لجنة تقصي حقائق برئاسة عضو المجلس محمد حسن التعايشي إلى مدينة الفاشر، عاصمة ولاية شمال دارفور.
وشكل المجلس لجنة أمنية برئاسة القائد الثاني لقوات الدعم السريع الفريق عبدالرحيم حمدان دقلو وممثلين للقوات المسلحة والشرطة وجهاز الأمن والمخابرات العامة والنائب العام بجانب عضوية جميع الحركات المسلحة لضبط الأوضاع الأمنية.
وأشار آدم والي لـ”العرب” إلى أن دارفور تعرضت لما يشبه الجريمة المتكاملة في حقها عندما قبلت السلطة الانتقالية برحيل قوات الأمم المتحدة (يوناميد) قبل أن تنتهي من تنفيذ بنود الترتيبات الأمنية، لأن البديل الذي يتمثل في قوات الدعم السريع طرف غير مقبول به في الهامش، وكان جزءاً من الصراع الدائر وثمة ضباط ارتكبوا جرائم من قبل يتواجدون حتى الآن معها، وتعرف عليهم مواطنون في ولايات الإقليم.
وبات المكون العسكري والحركات المسلحة بحاجة إلى ميثاق جديد شامل يقضي بالتعامل بجدية مع الأوضاع الراهنة التي أصبحت فيها الدولة السودانية رهينة منظومات أمنية متعددة كل منها يتبع قوى تؤثر على قراراته، ما جعل هناك ما يشبه “الدويلات الصغيرة” داخل الدولة الواحدة، ولن يتحقق ذلك إلا من خلال دخول المجتمع الدولي بفاعلية وتطبيق خبراته الطويلة في عمليات دمج الجيوش والتخلص من التبعية السياسية والعسكرية للقوات العديدة التي تحمل السلاح.
المصدر: العرب