صحيفة اللحظة:
أحد أنواع الفنون التي تهدف إلى تحرير النفس البشرية من التعرض للإرهاق والتوتر وذلك عبر اكتشاف العلاقات الشخصية والصراع العاطفي ومعالجتها في إطار الدراما لاكتساب البصيرة وتعزيز التوعية النفسية.
الدكتور مصعب مراد المعالج النفسي قال في تحليله للمسلسل السوداني ( سكة ضياع) التي عرضت مؤخرا خلال شهر رمضان، إن ظاهرة التشرد والانحراف تعبير طاف في جميع المجتمعات ولكنه يعكر صفو المدن وخاصة المدن الكبرى في المجتمعات وأكبر المشاكل التي تواجه الدول؛ هي تكوين عصابات من الأطفال والمراهقين (أطفال الشوارع) تتكلف بارتكاب جرائم من جميع الأنواع: مخدرات، سرقات، تحرشات، اعتداءات قد تصل إلى القتل وكثير
من المشردين وأطفال الشوارع يعانون من مشاكل نفسية واضطرابات عقلية لو أنها شخصت وعولجت مبكرا ربما لم يصل الطفل إلى هذه المرحلة من المعيشة ومن الإجرام هكذا بدأ مسلسل سكة ضياع يروي لنا تفاصيل بطل المسلسل الذى وجد نفسه فجأة في محيط تخلى عنه لأسباب وبدونها في مجتمع يحتكم إلى قانون لا يعطي للحدث تفسيراً مقنعاً.
ويؤكد د. مصعب أن المسلسل واقع ملموس من دون مغالاة ترتبط حلقاته بشريط من القصص والأحداث المتسارعة ومختلف صور الألم من جوع وبرد وقلق مغلفة بعواطف حب لا تعرف قلباً فقيراً ومتسلطاً وغنياً ؛ نشأ البطل في تلك الظروف مجرماً متمرساً ومحترفاً تشكلت شخصيته من بين عدم الإحساس بالمسؤولية الاجتماعية والرغبة في حرق المعايير الاجتماعية وعدم الشعور بالحرج من أي تصرف مخالف للعادات والتقاليد وعدم الاكتراث بالسلوك المضاد للمجتمع وضعف الشعور بالعار والخزي وتشكلت لديه سمات القسوة والغلظة والعجز عن الحب وإقامة علاقات اجتماعية
مضيفا بأن كل ذلك بدأ جلياً في شخصية البطل وصديقه الذي ظهر بنمط انهزامي لذاته طوال المسلسل بعدها انفتح قلب البطل قليلا للنور وبدأ يسأل عن بعض الأسئلة " ليه نحنا ما عندنا أهل؟ ليه كلنا في الشارع ؟ ليه الناس بتشوفنا كده؟ لحدي متين حنكون بنسرق؟ " وأسئلة عن الخير والشر لذلك كان يعيش في صراعات ما بين الخير والشر
وأضاف بأن المسلسل تدرج بعد ذلك ليلقى الضوء لبعض الظواهر المنتشرة في المجتمع كالإدمان والتفكك الأسري وغيرها ورؤيته إن المجتمع غير قادر على التعامل مع هذه الحالات ومسؤولية الآباء واضحة وسبب من أسباب انتشار هذه الظواهر.
ويوضح د. مصعب أن من الملاحظ ان المسلسل مراد به مناقشة قضايا اجتماعية وقد نجح لحد ما، مستدركا بأن هناك بعض المشاهد التي لا تليق بكل الفئات العمرية مشاهدتها
خصوصاً مشاهد الضرب و الإدمان و شخصية (حمو) التي لم يكن هناك أي معنى من وجودها حتى ولو كان ذلك واقعاً لكن لا يمثل إلا ظاهرة قليلة للغاية وعرض مشهده وهو بجوار (ست الشاي) وما حدث من مضايقات معه من شأنه أن يثبت مثل هذا السلوك في عقول المشاهدين لأن المشهد لم يكن به معالجة سوية؛ بل أثبت المخرج أن التغيير والتحول في شخصية حمو كان نتيجة ( التنمر ) وجميع هذه المشاهد وغيرها تم عرضها بإسهاب وكان من الممكن تلخيصها في مشاهد أقل بدون الاستغراق في الشرح.
وقال إن من الأحداث التي فتحها المسلسل ومن الممكن أن تسبب التشكيك لدى معتقدات المشاهدين ما كان يقوله شخصية (أبو الدبش) وتشويهه وسخريته من قيمة العلم والمهنة خاصة ذكره قائلا عن مهنة الطب والهندسة " الماهية جات وما جات " كذلك الاستهزاء بالثوابت والقيم الدينية بقوله " الضمير وخيانة الأمانة والتستر " ، " واديني 50 بجيك من الجامع " وغيرها ومثل هذه العبارات فيها استهزاء وقول حقائق في غير موضعها، لافتا إلى ضرورة تعظيم الجانب الأخلاقي وهو جانب افتقده المسلسل ومنوها إلى أن الشخصية التي كانت أقرب إلى قلب البطل، هي (تونة) لم تقم بدور الصديق الناصح الواعظ الذى يقوده لبر الأمان بل كانت تستمع فقط.
وأشار د. مراد إلى أن المسلسل تناول بعض الأفكار والسلوكيات الشاذة عن النسق الاجتماعي كالعبارات السلبية مثل (مستقبلك في الجريمة زي مستقبل محمد صلاح في الكورة ) – ( انا عبادي كبيري الله والباقي كلو عادي) – (فوق بحاسب الهادي وتحت بحاسب العبادي) – (المشاكل بتتحلى بالمشاكل) وغيرها من العبارات التي أصبح المشاهدين يرددونها ووفقاً للنظرية السلوكية في علم النفس،
مبينا إن هذه العبارات تعتبر تعزيز سلبي للممارسة ومن شأنها أن تقوي هذا السلوك وتبثته؛ مما يقود إلى تطبيقه في المستقبل وبالتالي تنعكس تلك العبارات في عقل المشاهد ليبدأ في ترديدها وتعزيزها، مضيفا بأن من السلوكيات التي قد تؤثر بصورة عكسية التدخين المستمر لبطل المسلسل كوسيلة للتعبير عن القلق والغضب وشرب الخمر البلدي لأغلب شخصيات المسلسل وسيلة لنسيان الهموم أو الاستمتاع باعتبار أن ذلك هو الحل لكل المشاكل.
وأكد أن المسلسل أظهر أن المجتمع يفتقر لنمط الضبط الاجتماعي الذي يمارسه المجتمع على جميع أفراده للمحافظة على النظام ومراعاة القواعد المتعارف عليها لمعايير المجتمع ونظمه المختلفة والمرتبطة بطبيعة البناء الاجتماعي ذاته، حيث أظهر للجمهور الدور الضعيف والهزيل للشرطة وغياب تام للقانون خاصة في مشاهد القتل وفي ذلك مساوئ كثيرة أولها اختلال النسق الاجتماعي وتفكك المجتمع فحاول بعدها المسلسل وضع الضماد على أهم مشكلة قام بفتحها وهي المشردين فكان الحل على المستوى العلاجي يهدف للقضاء على المشكلات أو على أقل تقدير التخفيف من نتائجها بقدر المستطاع ب (دار الإيواء) لكن لم يحدد الحلول على المستوى الوقائي أو الاحترازي الذي يقتضي توقع النتائج والعمل على معالجتها قبل حدوثها، كما أن بعض المشكلات عالجها السيناريو دراميا بعيداً عن الواقع تماماً وذلك لضعف البناء الدرامي؛ إلا أن ضعفه لا يعني قلة خيوطه الدرامية، إنما أثبت أن المسلسل متشعب وهذه تعتبر نقطة الضعف الثانية، حيث أن مؤلف المسلسل لم يستطع السيطرة على الشخصيات بعد وضعها على الورق واصفا الأمر بأنه أشبه بمن فتح قفص لتهرب منه الغزلان جميعا ويبدأ هو في مطاردتها لإعادتها مرة أخرى ولكن دون جدوى.
وبالعودة إلى شخصية البطل يؤكد د. مصعب أنه جسدت شخصيته الإجرامية على أنها ضحية يجب التعاطف معها وتناسي كل الجرائم التي قام وما زال يمارسها إلى الحد الذي يرى فيه المشاهد وهو يراقب حياة البطل بكل تفاصيلها ويخشى عليه من انكشاف أمره أو وقعوه في السجن ويتمنى سلامته وكل ذلك يصاحب الموسيقى التصويرية التي تجعل المشاهد لا إراديا ً يبرر لك الجرائم والسرقات بمبررات الحاجة المادية ويبدأ التعاطف مع البطل الذى يظهر بمظهر حسن ومحبب للناس
لافتا إلى أن ذلك السلاح الخفيّ الذي يدخل قلوب وعقول المشاهدين ويُحدث مشاعر تذكرهم بمتلازمة (ستوكهولم) وهي ظاهرة نفسية تصيب الفرد وتجعله يتضامن ويتعاطف مع المجرم ويحمل جريمته للمجتمع، متسائلا " هل يا ترى هذا المسلسل ( جسّدُ الواقعَ فحسب ) وما هو هذا الواقع الذي يسعى لتجسيده هل هو الواقع السليم أم ذاك المليء بالسوء والجرائم والابتذال؟ لماذا يتم تسليطُ الضوء على تلك البقع السوداء وجعلها أكبر وأعمق! " حتى لازمت عقول المشاهدين.
ويختتم د. مصعب بأن المسلسل انتهى بعدة نقاط إيجابية بعد التحول الذي حدث في شخصية عبادي وعزز الكثير من القيم السودانية؛ كتعامل الإخوان والتسامح مع الأم ودور الشرطة القوي الذي ظهر في مكافحة المخدرات ورصدها وجسمها بصورة احترافية تؤكد بأن المجتمع لديه نسق وضوابط يعيش عليها كما أن دور الأيتام كانت من أميز ما قدمه لهذه الفئة من الأطفال، مضيفا بأن المسلسل استعرض بعض القضايا المجتمعية مثل الزنا والأعراض والإدمان والتي يتطلب مناقشتها من خلال الدراما النفسية؛ لأنها تصاحب كل المجتمعات، متسائلا " كيف تطرح هذه القضايا؟ هل بالطرق المبتذلة وإبعاد النموذج الإيجابي وعرض السلبي فقط من المجتمع! "
موضحا أن الدراما أصبحت تطرح كل القضايا بأساليب تفتقر للأخلاق ولا تتناسب مع جمهور المشاهدين، كما أنها لا تراعي وجود أطفالاً ومراهقين ضمن المشاهدين ستصل إليهم هذه الأفكار مشوشة والمقتطعة من السياق؛ ليصبح التأثير عكسياً
مضيفا بأن الدراما تجسيد للواقع وليس تجميله ضمن ضوابط تراعي القيم الاجتماعية والدينية والإنسانية لضمان المحافظة على النسيج الاجتماعي وحمايته من تشويه القيم الاجتماعية في التسامح والاستقرار الأسري والنفسي والعاطفي، مبينا أنها تجربة مميزة وقالب حيوي يحتاج للتمرس والدقة والإبداع في النص والسيناريو لتقديم الأفضل في المواسم القادمة.