صحيفة اللحظة:
حتى الكتب ذات الأغلفة الممزقة، حرص أصحاب مكتبة "مروي بوك شوب" السودانية العريقة على حملها وتسليم المكان خاليا، في الأوراق الممزقة التي هي عند بعضهم أشياء يجب التخلص منها؛ تعني الكثير عند أهلها الذين يتنسمون عبق رائحتها.
لكن أوراق الكتب التي خطها مؤلفون من شتى الأصقاع لم تستطع الصمود أمام الأوراق المالية، لهذا ولغيره أغلقت مكتبة "مروي بوك شوب" السودانية بعد أن عملت منذ العام 1952.
ففي العام الذي من المفترض أن تحتفل فيه مكتبة "مروي بوك شوب" بيوبيلها الذهبي، ويحتفي المثقفون بـ50 عاما من النشر والمعرفة والتنوير، تصحو الخرطوم على نبأ إغلاق المكتبة وتستوطن الحسرة قلوب أهل الثقافة، و"بالطبع إغلاق مكتبة بشكل عام أمر محزن"؛ بهذا يبدأ الكاتب والصحفي راشد مصطفى بخيت حديثه للجزيرة نت.
ويضيف بخيت "لكن إغلاق مكتبة مثل مروي بوك شوب له رمزية عميقة، فهي جزء من ذاكرة التخطيط الحضري للمدينة، حين كان الكتاب وصناعة النشر جزأين من ثقافة ساكن المدينة وعلامة عليه. واختفائها اختفاء لعلامة مهمة من علامات المدينة القديمة".
الصحف والمواقع الإلكترونية ضجت بالحديث عن المكتبة وتاريخها وعن مؤسسها إسكندر فهمي وعلاقته الراسخة بالكتاب وافتقاد المدينة لمركز إشعاعي مهم، وتعددت الروايات عن سبب الإغلاق.
الجزيرة نت سألت فهمي إسكندر ابن مؤسس المكتبة عن سبب الإغلاق، فأجاب "منذ العام 2010 ونحن في المحاكم حتى صدر أمر الإخلاء في العام 2017 وانتقلنا للبدروم الذي كان مخزنا، والآن جاء مالك جديد للبناية أمهلنا مدة للإخلاء وفعلنا بعد ذلك. لم يكن هناك سبيل آخر".
والأمر كان أشد ألما على الناشرين رفاق الدرب وزملاء المهنة، وقد أفاد نور الهدى محمد -الأمين العام لاتحاد الناشرين السودانيين وعضو اللجنة التنفيذية للاتحاد العربي للناشرين- بالقول "مروي مكتبة لها بصمتها ومؤسسها رجل قدّم لوطنه الكثير، ما حدث جريمة والجناة كثر أولهم وزارة الثقافة التي صارت عالة على الكتاب وصناعته".
وأضاف محمد للجزيرة نت "مع التذكير بأنها ليست أول المكتبات المهمة إغلاقا ولن تكون الأخيرة ما لم تتنبه الدولة"، وهذا ما أشار إليه إسكندر أيضا بقوله "إغلاق المكتبة أمر محزن، لكن ما لم تعالج مشكلات النشر فإنه سيغلق غيرها من المكتبات ودور النشر، ويبقى ما هو مالي مهما جدا".
ومن الواضح أن سوق النشر لم يعد كما كان. ففي السودان تزداد الأزمات وتعظم مشكلات النشر؛ ما ينذر بسريان النار إلى مكتبات أخرى.
ويشير فهمي إسكندر في إفادته إلى مشاكل النشر التي اكتوت بها مروي بوك شوب، وبينها "كثرة الرسوم التي تجنيها الدولة من المكتبات، وهي رسوم تزيد من التكلفة. إضافة إلى أن أسعار العملة المتذبذبة تجعل الكتاب خاسرا في كثير من الأحيان، لكن الهاجس الأكبر هو قرصنة الكتب التي باتت هاجسا مؤرقا"؛ إذ تنشط عمليات النسخ غير القانوني للكتب في السودان (القرصنة) ما يهضم حق المؤلف والناشر.
وقد سألنا الأمين العام لاتحاد الناشرين عن القرصنة، وعن دور الأجهزة الرسمية في كشفها فأجاب محمد "قرصنة الكتب تحدث علنا والدولة تعرف، بل إن بعض المقرصنين يحملون رخصا من الوزارة. إنها سرطان سيقضي على حقوق المؤلف والناشر وسيؤدي لإغلاق المزيد من الدور".
وتابع معتبرا أن القرصنة -وبشكل أخص الطباعة غير القانونية- تحدث كثيرا بما في ذلك عناوين معروفة لا ينال المؤلف ولا الناشر -الذي احتمل عبء تأسيس دار نشر وتعاقدات مع الكتّاب وغيرهم- منفعة منها، بل وينافس هذا الكتاب المسروق نسخة الدار الأصلية ويحقق نسبة مبيعات أعلى من الكتاب الأصلي.
وذكر محمد مشاكل أخرى تضرب صناعة النشر السوداني وبينها أن "الكتاب السوداني عليه رسوم إيداع، ورسم رقم دولي، وعندما تشارك به في معرض دولي يُدفع رسم صادر، وإن لم يُبع الكتاب تدفع رسوم جمارك عند عودته (مرة أخرى)، فضلا عن رسوم أخرى كثيرة، من دون أن تدعم الوزارة الكتاب أو عملية النشر بأي مبلغ.. باختصار عندما تكون الوزارة عالة على الكتاب فما الذي تتوقعه؟".
ويرى البعض أن هناك دورا مجتمعيا تجاه المؤسسات الثقافية التي تعاني للبقاء حية بمحاربة الظواهر السلبية مثل الكتاب المزور، لكن نور الهدى يقلل من هذا الدور، ويقول "القراء سيتعاطفون مع الدور التي شكلت وعيهم وكانت جزءا من تاريخهم عند إغلاقها، لكنهم لن يقدموا سوى هذا الشعور النبيل فأغلبهم مطحون ومهموم برغيف الخبز وفاتورة الدواء".
ويظل التعويل الأساسي على ما يمكن أن تقدمه أجهزة الدولة وعلى أقل تقدير كف جبايتها إن عجزت عن تقديم شيء، يتابع أمين اتحاد الناشرين.
لكن لا يبدو أن تقديم شيء للنشر أو الثقافة بشكل عام مناط تفكير الساسة وفق رأي بخيت، لأن "هنالك نقصا فادحا تجاه هذه الحساسية بين النخبة السياسية السودانية، ولن يجد الكتاب وصناعة النشر عناية لازمة منهم، ولا تخطيط".
ويرى بخيت أنه "بشكل عام ظلت صناعة الثقافة والكتاب وتسويقه؛ أمرين خاصين بمجتمع القراء".
وعلى صعيد آخر يرى الكاتب والصحفي حاتم الكناني أن مؤسسات الدولة هي السبب الرئيس، ناعتا إياها بالمتقهقرة، وأضاف "هي مشكلة دولة في الأساس، فتقهقر مؤسسات الدولة أدى لعدم قيام اقتصاديات ثقافية بالبلاد". ويذكر الكناني أن المنتجات الثقافية تشكل نسبة مقدرة من جملة الإنتاج في الدول المتحضرة بينما يحارب الفعل الثقافي في السودان نتيجة لعدم الاهتمام به في أحسن الأحوال.
ويرى مراقبون أن الواقع الثقافي متدهور منذ عقود، وأول مظاهر تدهوره تبعيته للساسة بدل أن يكون هو المشكل للوعي السياسي، والمتابع للمشهد الثقافي السوداني يستطيع ملاحظة هذا التدهور أو ما يصفه البعض بالخفوت لولا ألق بين الحين والآخر.
ويقول الكناني "لا نعيش اضمحلالا لأن الدولة السودانية بمؤسساتها الهشة لم تتح للثقافة فرصة الازدهار بداية، بل كانت الثقافة أداة ترويج سياسي وشيء شعاراتي أكثر من كونها فاعلا في المجتمع".
لكن هذا القليل الذي تحاول بعض المؤسسات صنعه ويجتهد في قيامه مثقفون بات مهددا بالخطر في عاصمة لها تاريخها الثقافي، وبتجربته الطويلة في الحقل الثقافي في السودان يرى نور الهدى في الأفق أياما كالحة، ويقول "ماضون نحو الاضمحلال الثقافي بسرعة، ما لم نحظَ بحكومة تعرف قيمة الكتاب وأهمية الثقافة".
وربما يحسب البعض الثقافة فعلا ترفيا في بلاد يتهدد سكانها الكثير من المشكلات، لكنها بطبيعة الحال ليست كذلك عند أهلها بل هي الحل لمشاكل أخرى، وهذا مما أفاد به بخيت، قائلا "مع كل هذا الوضع الذي لا ينبئ بخير، دعني أقول لك إن المستقبل لا وجود له خارج ثقافة المكتبة وفي بطون الكتب".
ويربط حاتم الكناني الازدهار الثقافي بالاستقرار السياسي والحكومة المدركة لقيمة الأشياء، فيقول "علينا أن ننتظر استقرارا سياسيا واقتصاديا حتى تعود للثقافة بعض من حيويتها"، ويستدرك "هذا لا يعني التوقف عن الفعل الثقافي فهو فعل حياتي".
ورغم سوداوية المشهد لكن ما زال الأمل يلامس القلوب التي تبثه لغيرها.
ويختم بخيت إفادته بالقول أنه "رغم الهجمات الشرسة والاستهداف المنظم والإهمال المتعمد الذي تعرضت له المكتبات ودور النشر ومعارض الكتاب، ظل الكتاب موجودا بطريقة أو بأخرى، وظلت الثقافة ومبادراتها تنمو تحت تربة كل هذا الحطام".
وبالعودة لمنطلق الحديث من بوابة الأمل سألنا فهمي إسكندر عن إمكانية عودة "مروي بوك شوب"، فقال "رائحة الكتب تذكرني بوالدي، لقد كانت مروي بوك شوب مشروع حياته، لذلك لا بد من إعادة فتحها في موقع جديد رغم إيماني بأنه قرار عاطفي، لكن هل يمكن أن نحيا بدون عواطف؟! هذا أقل ما يمكن فعله لروح والدي ولرواد المكتبة".
المصدر : الجزيرة