صحيفة اللحظة:
أثار إعلان جوائز نوبل في الفيزياء والكيمياء لعام 2024 حالة من الجدل في أوساط العلماء والباحثين، بعد هيمنة تطبيقات الذكاء الاصطناعي على الجوائز في المجالين، مما دفع البعض إلى القول إن لجان نوبل المسؤولة عن اختيار الفائزين جانبَها الصواب، في حين ذهب البعض إلى أنها أحسنت الاختيار، لأن هذه التطبيقات تمتد آثارها إلى كثير من المجالات العلمية. في حين أن فريقاً ثالثاً أشاد بالمستوى العلمي للأبحاث الفائزة ولكنه رأى أنه كان من الأولى أن تحظى بالتكريم ضمن مسابقات علمية أخرى تُعنى بالتطبيقات الحاسوبية والذكاء الاصطناعي، معتبرين أن هناك كثيراً من الأبحاث والجهود العلمية في الفيزياء والكيمياء كانت أولى بهذا التقدير ونيل الجائزتين.
ومنحت أكاديمية نوبل السويدية، الأربعاء، جائزة الكيمياء لعام 2024 مناصفةً بين الأمريكي ديفيد بيكر، من جامعة واشنطن الأميركية، لأبحاثه حول «تصميم البروتينات باستخدام التقنيات الحاسوبية»، في حين تقاسم النصف الآخر من الجائزة كل من البريطاني ديميس هاسابيس والأميركي جون إم. جامبر، من مختبر «غوغل ديب مايند» بالمملكة المتحدة، لنجاحهما في «فك شفرة البنى المذهلة للبروتينات باستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي».
في حين حصد الأميركي جون هوبفيلد، والبريطاني الكندي جيفري هينتون، جائزة نوبل في الفيزياء، الثلاثاء، تقديراً لاكتشافاتهما وابتكاراتهما الجوهرية التي أفسحت المجال لظهور تقنيات التعلم الآلي وشبكات الذكاء الاصطناعي العصبية.
تحوُّل نحو الموضوعات الرائجة
يطرح الدكتور علي عبده، أستاذ الهندسة النووية، سؤالاً يصفه بـ«البريء» : «ماذا لو خاض علماء الحاسوب الفائزون بجائزتي نوبل لهذا العام امتحاناً مماثلاً لامتحانات البكالوريوس في فرعَي الفيزياء والكيمياء؟ هل من المتوقع أن ينجحوا فيه؟ أم أن الذكاء الاصطناعي سيساعدهم على تحقيق ذلك؟»
وأكد عبده في حديثه لـ«الشرق الأوسط» أن كلامه ليس تقليلاً من إسهامات الفائزين التي نقلت البشرية نقلة كبيرة إلى الأمام، وفتحت أبواب المستقبل علي مصراعيه لتطبيقات غير مسبوقة، موضحاً أنه «إذا أردنا تكريم هؤلاء العلماء على إسهاماتهم، فهناك جوائز أخرى كثيرة تضاهي (نوبل) في مجال الحاسوب والرياضيات، في حين أن هناك كثيراً من علماء الفيزياء والكيمياء جديرون بجوائز نوبل، وقد ضيعت اختيارات نوبل لهذا العام عليهم فرصة التقدير المستحق».
ويشعر بعض المنتقدين بالقلق من أن الاهتمام المتزايد بالذكاء الاصطناعي سوف يطغى على البحوث الأساسية في الكيمياء والفيزياء البحتة. ويعتقد الكثير من الباحثين أن جوائز نوبل، التي احتفلت تاريخياً بالاختراقات الأساسية في العلوم، تحول تركيزها نحو الموضوعات «الرائجة»، مثل الذكاء الاصطناعي، بدلاً من الاعتراف بالاكتشافات العلمية الأساسية التي كانت تاريخياً أساس هذه المجالات. ويهدد هذا التحول، من وجهة نظرهم، بتقويض الاعتراف بالاكتشافات الأساسية طويلة الأجل التي غالباً ما تمر دون أن يلاحظها أحد ولكنها حاسمة لتقدم المعرفة البشرية.
من جانبه، شدد الدكتور أحمد سمير سعد، الكاتب العلمي ومدرس التخدير بمستشفى قصر العيني في مصر، على أنه «لكل الآراء المعارضة والمؤيدة وجاهتها»، ولكنه شخصياً لا يرى أي غضاضة على الإطلاق في منح جائزة الفيزياء أو جائزة الكيمياء لتطبيقات الذكاء الاصطناعي التي خدمت هذين المجالين، ففي النهاية هما جائزتا عام واحد فقط ولا تمثلان بأي حال توجهاً عاماً سيتم الالتزام به خلال السنوات المقبلة.
وأوضح لـ«الشرق الأوسط» أن «الجائزة لا يمكنها أن تكرم كل الجهود التي تستحق تكريماً من نوع ما، نعم كان من المعتاد أن تستهدف الجائزة الباحثين في العلوم الأساسية، ولكن لا يضر على الإطلاق أن تنتصر بين الحين والآخر للتطبيقات العملية».
إضافة حقيقية للعلم
ويجيب الدكتور علي فرج، أستاذ الهندسة الكهربية وعلوم الحاسب في جامعة لويزفيل بالولايات المتحدة، عن سؤال طرحه الكثير من المتخصصين والأكاديميين، في أعقاب الإعلان عن جوائز هذا العام مفاده: «أليس من المفترض أن يكون الإنجاز المستحق للجائزة يمثل إضافةً حقيقةً للعلم في مجال الجائزة؟».
يقول فرج لـ«الشرق الأوسط»: «هذا السؤال يتعلق في الأساس بتعريف ماذا تعني علوم الفيزياء والكيمياء، ومدى تقارب العطاء العلمي للفائزين مع هذا التعريف»، مشدداً على أن «جوائز هذا العام مستحَقة تماماً في المجالين، وستعطي دفعة كبرى لأبحاث الذكاء الاصطناعي ذات الأساس النظري».
وهو ما اتفق معه الدكتور محمد حلمي، أستاذ مساعد ورئيس معمل البايوانفورماتيكس وبيولوجيا النظم في منظمة اللقاحات والأمراض المعدية بجامعة ساسكاتشيوان في كندا، قائلاً: «من حيث الفائدة والتأثير، أعتقد أن الاختيارات الخمسة للجائزتين جديرة بالتكريم»، مؤكداً في تصريحات لـ«الشرق الأوسط» أن «ما قدمه الفائزون بالجائزتين أحدثَ نقلة نوعية غير مسبوقة ووفَّر على الباحثين جهوداً كبيرة ربما كانت تحتاج إلى سنوات طويلة للتوصل إليها بالطرق التقليدية المعتادة»، ضارباً المثال بفك شفرة البروتينات وتحديد أشكالها البنائية، واصفاً الأمر بأنه «كان لغزاً وكان يستغرق من الباحث قضاء عمره كله في سبر تركيب بروتين واحد فقط بالطرق التقليدية، فضلاً عن عدم دقة النتائج».
وأضاف: «تكفي الإشارة إلى أن الحائزين جائزة نوبل في الكيمياء نجحوا في تحديد بنية 200 مليون بروتين وبدقة عالية جداً، كما أنهم أتاحوا كل هذه النتائج في قاعدة بيانات مفتوحة للجميع على شبكة الإنترنت، مما ينعكس على كثير من الاكتشافات في مجالَي ابتكار الأدوية واللقاحات، على سبيل المثال لا الحصر».
وتابع: «يمكن لكل باحث تقريباً الآن اللجوء إلى قاعدة البيانات هذه واستخدام هذه الأدوات لمعالجة مشكلته البحثية».
محاكاة الظواهر الطبيعية
من جانبه، أوضح فرج أن «الفيزياء تُعنى بالظواهر الطبيعية وتتم محاكاتها مع أنظمة حيوية كالعقل، على سبيل المثال، الذي يُعنى بتخزين واسترجاع وتطويع المعلومات، وهذا ما حاول هوبفيلد محاكاته في 1982 بما عُرف بالدائرة العصبية. وجاء هنتون ليبرمج التعلم في تلك الدوائر، في 1986 وما بعدها».
وأضاف: «لم تكن الحاسبات ولا البرمجيات مثلما هي اليوم، ومن ثم تطورت الدوائر من حيث التكوين ودرجة التعقيد، ومن حيث لوغاريتمات التعلم، بتطور الحاسبات والبرمجيات، ووجود تطبيقات جديدة تستدعي وجود هذه الدوائر»، مشدداً على أن «هوبفيلد من علماء الفيزياء ونال جائرة بنيامين فرانكلين في 2019 عن أعمال في صميم الفيزياء، بينما نال هينتون جائزة (تورنغ)، كبرى جوائز الحسابيات في 2018 عن دوره في تعليم الدوائر العصبية. فالعالمان راسخان في هذا المجال وعملهما يتعلق بمحاكاة ظاهرة الفهم لدى البشر».
واستطرد: «أما بيكر، فأساس عمله تعلَّق بفهم تراكيب البروتين، وتخليق بروتينات جديدة، مما يساعد في دراسات كيميائية لا حصر لها، وهو عمل يتعلق بالمادة العضوية، ومن ثم فانتماء الفعل إلى الكيمياء لا ريب فيه، وبدأ هذا العمل في 2003. وجاء هاسابيس وجامبر فيما بعد، وبالتحديد في 2021، ليبنيا اللوغاريتمات المتضمَّنة في هذه التراكيب. والعلماء الثلاثة بارزون، نالوا من قبل مختلف الجوائز القيمة المتعلقة باستخدام الذكاء الاصطناعي في فهم تراكيب البروتين».
وهو ما يتفق معه سعد قائلاً: «بررت لجنة نوبل منح جائزة الفيزياء للشبكات العصبية الاصطناعية بأن مبتكريها استغلوا تطبيقات وآليات فيزيائية من أجل إنتاجها». وأضاف أنه «فيما يتعلق بجائزة الكيمياء، كانت نماذج الذكاء الاصطناعي وسيلة لسبر أغوار البروتينات، بل تصنيع بروتينات غير موجودة في الطبيعة لأداء وظائف معينة، وهو أمر يستدعي الإلمام بأساسيات الذكاء الاصطناعي وكذلك الكثير من المعرفة ببنية البروتينات، وبالتالي فهو تكريم لمجال كيميائي معروف، وما قام به الذكاء الاصطناعي هو تحقيق غايات هذا المجال العلمي».
لقد فتحت جوائز هذا العام المجال لمناقشة أوسع حول كيفية إعادة تشكيل الذكاء الاصطناعي لمستقبل العلوم، وما إذا كان ينبغي لجوائز نوبل أن تتكيف مع هذه التغييرات أو تؤكد التزامها بالاعتراف بالاكتشافات العلمية الأساسية التي تدفع التقدم.